وإذ يطرح تودوروف سؤاله هذا، تراه يختار العقودَ الثلاثة التي شهدت صعود الثورة الاشتراكية في روسيا (1917)، انتصار البلشفية ومجيء الستالينية، وعددا من الفنّانين والكتّاب الذين عايشوا تلك الفترة، ولم يكونوا أبدا من مُعادي الثورة، بل إنهم حتى استقبلوها بحماس، وشاركوا فيها أحيانا أو هلّلوا وروّجوها. ومع ذلك، عادتهم الثورة، وأطبقت على أنفاسهم، ومنعتهم من النشر، أو من ممارسة فنّهم، هذا حين لم تقم بنفيهم، تعذيبهم أو تأمر ببساطة بإعدامهم.
والملفت في كتاب "انتصار الفنّان" الهادف إلى إعادة الاعتبار إلى فناني تلك الحقبة، ممن شكّلوا طليعة المبدعين الروس في حينه، هو تصوير علاقة الفنانين بالثورة على أنها علاقة حبّ عاصفة، تبدأ حلما جميلا، لتتحوّل من ثم إلى نوعٍ من الخيبة التي تنتج توترا وصراعا، انتهاءً بموت الفنان بطريقة تراجيدية. ويعزو تودوروف ذلك إلى قناعةٍ راسخةٍ انتشرت وتشاركتها طليعة أدبية وفنية، في روسيا كما في الغرب، وتقول بضرورة تغيير عالمٍ منتهٍ والبدء من الصفر، وهو ما دفع بفنانين كثيرين إلى الترحيب بسقوط النظام القيصريّ، وبمجيء الثورة. إنما، وللأسف، لم يُعنَ البلاشفة بنزعة التجديد والابتكار لدى الفنانين، بقدر اهتمامهم بضمّهم إلى قضيتهم وإرغامهم على الانحياز لسياساتهم، قبل أن يعتمدوا العنف طريقةً منهجية (منذ عام 1932)، وإلا كانت مصائرهم الموت في السجون، وفي صحارى سيبيريا الجليدية.
الروائي والشاعر بوريس باسترناك لم يكن يحتمل فظاعات الثورة وعنفها. كتب رائعته "دكتور جيفاكو" بشكل سرّي خلال عشر سنوات، ولم يجد في الاتحاد السوفييتي كله ناشرا يقبل بها، هو الذي حاز بعد نشرها في الغرب جائزة نوبل للأدب. الشاعر مندلستام الذي لم يتحمّس للماركسية، وألّف عام 1933 "قصيدة تهكمية ضد ستالين"، نُفي إلى الريف، قبل أن يُحكم عليه بالأشغال الشاقة في معسكر الاعتقال السوفييتي في سيبيريا، حيث لاقى حتفه عام 1938. الشاعر ماياكوفسكي، وهو من أوائل البلاشفة، روّج الثورة، على الرغم من نزعته المستقبلية فنّيا، فأدى به هذا "المزيج" الغريب من اتجاهين متضاربين إلى الانتحار عام 1930. الشاعرة آنا أخماتوفا منعت من النشر عام 1925، بعد إعدام زوجها عام 1922. الشاعرة مارينا تسفيتاييفا فقدت زوجها وابنتها بعد اتهامهما بالتجسّس عام 1939، فانتهت منتحرة عام 1941. اسحق بابل كان رفيق سلاح البلاشفة، وتم الاحتفاء بروايته "الخيالة الحمر"، لكنه مُنع من نشر أعماله بعد عام 1926، لأنه راح يكتب عن مشاهداته في الواقع المحيط به، إلى أن أُعدم رميا بالرصاص في عام 1939.
هذا وقد أفرد تودوروف النصف الثاني من كتابه المنقسم جزأين، للفنان التشكيلي الراديكالي كازيمير ماليفيتش الذي كان من أكبر المتحمّسين للثورة. عام 1915، عرض الفنّان لوحته "مربع أسود على خلفية بيضاء" منتفضا بذلك على الرسم التمثيلي، إلا أن فنّه، الثوري، لم يلق رواجا لأنه لا يمتّ إلى المجتمع وقضاياه بصلة، فتوقف عن الرسم عشر سنوات، ليعود ويستأنف عام 1928، حيث رسم لوحات تمثيلية عديدة يرى فيها تودوروف أقصى التمرد. نعم، لقد رسم الفنّان وجوها بشرية، لكنها وجوه فارغة، كما لو أن "آلةً تطحن الأرواح قد أهلكتها". فكان أن أدخل ماليفيتش السجن، فشل في الفرار إلى برلين، ثم مات معدما فقيرا في عام 1935.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق