ياسمينة بريهوم
"هل غادر الشعراء من متردم؟ أم هل عرفتُ الدار بعد توهم؟"..، هذا ما قاله عنترة من أربعة عشرة قرنا -أو وصلنا أنّه قاله، فهل كان عنترة يعي هذه الغربة التي نخفي وجوهنا منها حين نقرأ الكثير، الكثير ممّا يُكتب هنا وهناك، فنراه يمضي بنا إلى عكس ما تعلّمنا عن الشعر من كونه نقلا للامتلاء بالحياة وما يدور فيها وحولها؛ ليعبّئها بجماله، ثم يفرغ منها ليواصل رحلته بحثا عمّا يرّجها، وتدير وجهها عنه، ويسيران كلّ في اتجاه ليتعانقا كلّ مرة في حركة لا مبالية تمنح كليهما التجدّد اللامتناهي؟
لابدّ أنّ الغربة -وقوفا على بيت عنترة- عميقة، وليست جديدة في مخيالنا، ولابد أنّ سوسها أكل من قديم قدرتنا على ضبط معاييرنا، وإلاّ من أين لنا هذا الاستعداد للاستسلام للصمت، والاِنكفاء على أنفسنا متّهمين إيّاها بقلّة المتابعة، وعدم الإلمام بالنظريات والطرق الجديدة للكتابة، التي تتطلّب -في اِصطلاح الكثيرين- الغموض، وكلّ ما يستعصى على التفسير، وفتح معابر النّصوص والوصول إلى عطورها، وجواهرها؟
ومن أين هذه الشكوك والاِحباطات التاريخيّة التي تجعلنا نرضى بما تجود به موضات الكتابة بحجة الحداثة وما بعدها ولو دمرت قناعاتنا عن الجمال والحق التي يلبسها النقد الجديد ألبسته إنما لا يتخلى عن جوهرها؟
وهو ما نجده ونتمسك به حين نلتقي بعض متبقاه في كتب بقدر ما تفاجئنا، بقدر ما تزيد تشوّشنا بوجودها إذ إنّها ما تزال تحمل بين طيّاتها روح أصحابها، وآلامهم، وآمالهم، ويومياتهم التي نقاسمهم إيّاها ولو بعيدين عنهم، إنّ هذه الكتب تبلبلنا ونحن نستعيد الإحساس بأرجلنا على هذه الأرض العجوز التي مازلت تحلم وتتزيّن للحياة برغم الغياب، والعذاب الذي يجرّعه الإنسان لأخيه الإنسان، ليسميه حياة صعبة!
أمّا الشاعرة الجزائرية نـوّارة لحـرش، فتسميها الاستمرار في "مكان" غير آمن، قابل لكلّ الرجّات والتوقّعات وهو ما يحمله مضمون عنوان ديوانها الجديد الصادر سنة 2016 في طبعة أنيقة من القطع الصغير عن دار "الوطن اليوم" بعنوان "كمكان لا يعوّل عليه".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق