مثالياً، يحكم عالمنا سلطات ثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية؛ كما اصطُلِح أن تحتل سلطة الإعلام المنزلة الرابعة؛ لتنال حرية الكلمة أو حرية الصحافة لقب «السلطة الرابعة»؛ وخاصة بعد أن نصَّ الدستور الأميركي في إحدى مواده - الرابعة على ما أعتقد - على إعطاء هالة خاصة لذلك الدور الفاعل لهذه الأداة.
من هنا، امتلك الإعلام الأميركي قوة جبارة شكّلت طيفاً مهيمناً مخيفاً برقابته وسطوته وسلطته تجاه الثلاث الأوُل. أزاح الإعلام الأميركي رؤساء، وأوصل آخرين؛ أهلك إمبراطوريات اقتصادية، ورفع أخرى من الرماد؛ أبقى قضايا وكيانات على الساحة الدولية، وسحق أخرى.
لم تقتصر قوة هذه «السلطة الرابعة» على ما استمدته من حظها في الدستور الذي عزّزها بقوة القانون. ولكن ما دجّجها بسطوة جبارة هو اندماجها بالمؤسسات الاقتصادية الأقوى في ذلك البلد، وعالمياً عبر ارتباطها العضوي بالمؤسسات الأقوى اقتصاديا المتمثلة في مؤسسات المال والسلاح والنفط والتقانات.
من هنا صار السياسي الذي يكسب ودها أسطورة لا تتزحزح، ومَن يناكفها في خطر محدق؛ وكي تصمد في وجه تلك «السلطة الرابعة»، لا بد من ارتباط مع المؤسسات الأخرى؛ وحتى تلك أحياناً لا تنفع. مَن تفضّله أو من تتعهده يسد، ولو كان «خرقة»؛ ومن تستعديه يترنح، ولو كان «فلتة زمانه». مِن هنا، قِيل بأن هذه السلطة لا تُعادى.
هناك على أي حال استثناءات.
هذه السلطة أحبّت الرئيس باراك أوباما، فسدّت ثغراته وحمته كثيرا، فجعلت – باعتقادي - ممن سقفه إدارة شركة محاماة شبه فاشلة يحكم بلداً جباراً ويحدّد قضايا مصيرية عالمية ثماني سنوات. لكنها أحبّت هيلاري كلينتون، ولم تتمكن من أن تأتي بها إلى الرئاسة التي أيضاً لا تستحقها؛ برأيي.
في بداية السبعينات شوّهت أهم جنرال أميركي في فيتنام، الجنرال وليم ويستمورلاند وأنزلته عن عرشه. وأزاحت أحد أهم الرؤساء الأميركيين... ريتشارد نيكسون، الذي حيّد الصين وسلخها عن الاتحاد السوفياتي؛ لكنها في الوقت ذاته حمَت بيل كلينتون المطعون في أخلاقه الشخصية.
والآن، ما قصة هذه «السلطة الرابعة» مع الرئيس دونالد ترمب؟
لو أن إمبراطورية تعرضت لـ«التسونامي» الإعلامي الذي يتعرض له ترمب منذ بداية حملته الانتخابية وحتى اللحظة، لأضحت هباءً منثوراً. صحيح أنه مادة ممتعة ومثيرة وإشكالية تحتل الموقع الأول في أي أجندة إعلامية. صحيح أنه ناصب الإعلام العداء وتعرّض له بشكل مثير للعدائية. إلا أن الصفة العامة للتناول الإعلامي لترمب تغلب عليها السلبية والاستهداف المدمر، الذي لا يتناسب حجما مع زلاته الجاذبة جداً للإعلام؛ فحتى لو كان الهدف غير متوازن... فلا بد لوسيلة الإعلام من التوازن والمهنية العالية كي تحافظ على المصداقية التي هي رأس مالها الأساسي.
إننا إذا ما تفحّصنا - وبشكل عابر - طبيعة تغطية «السلطة الرابعة» في أميركا لزيارة ترمب للمملكة العربية السعودية، نجد أنها كادت ترسمها كـ«حدث» يجري في مكان بعيد لا يعني الأميركيين. ثم هناك الأمر الأهم وهو «عمالته» المزعومة للروس، الذين - وفق الإعلام المعادي للرئيس الأميركي - «تدخلوا بجلبه لرئاسة أميركا». الانشغال الإعلامي كان يتمحوَر حول هذه النقطة في مختلف الشبكات والمحطات والمؤسسات الإعلامية الأميركية وتوابعها، ابتداءً من «سي إن إن»، وانتهاءً بأصغر محطة أو صحيفة تعتمد على مصادر إعلامية أميركية. لقد ركّزت كل هذه في تغطيتها على تناقضات الرجل؛ فهو - في رأيها - يسعى إلى إصلاح وحتى مسح ما خرّبه لشهور خلال حملته الانتخابية تجاه الإسلام والمسلمين؛ وكادت لولا «الضرورات المهنية» تصفه بالمنافق.
بخصوص مسألة «الإرهاب»، اعتبرت ما يقدمه ترمب ليس أكثر من تنظير، وكادت تكون لسان حال الإعلام الإيراني عندما رأت وجوب حديث ترمب عن «الوهابية» في السعودية. وقرّعته لأنه يتحدث فقط عن إيران دون أن يأتي على ذكر الدور الروسي العبثي؛ وكأنها تغمز مذكّرة إياه بارتباطه مع الروس، ولذلك لم يذكرهم. وفي جانب ثالث في المرافعة عن إيران، قالت إن علينا أن نعرف أن التصادم مع إيران يعني التصادم مع أوروبا بحكم أن أوروبا شريك في الاتفاق النووي. وفي جانب رابع من المرافعة عن إيران قالت إن انتقاد سجل حقوق الإنسان في إيران يستلزم أيضاً انتقاد سجل حقوق الإنسان في دول الخليج.
مقدّرة هذه الحرية التي يتصرف بها الإعلام؛ إنها الحالة الصحية نحو مجتمع عفي قوي يصون الوطن وأهله. ولكن أن لا ترى إلا سواداً وبؤساً وسلبية بمن أُعطيت الحق بتصويره وتسليط الضوء عليه، فهذا سوء استخدام للسلطة، وما هو من المسؤولية والوطنية بشيء...
ما هذه المؤسسات الإعلامية بدكاكين من العالم الثالث تسوقها العواطف و«الشخصنات» والمرامات ومشاعر الحب والكراهية والانتقام. نحن نتحدث هنا عن سلطة رابعة ملحوظ دورها في دستور له مكانته عند أهله.
لا بد أن يأخذ مراقبون متوازنون على هذه السلطة أنها لم ترَ مثلاً فيما قام به دونالد ترمب في رحلته فعلاً أقل ما يُوصف به أنه تاريخي؛ وربما يفوق ما قام به الرئيس رونالد ريغان عام 1982 خلال زيارته إلى لندن. ويذكّرنا نيوت غينغريتش، رئيس مجلس النواب الأميركي السابق، أنه من هناك أطلق ريغان عبارته المشهورة The Evil Empire - «إمبراطورية الشر» - للإشارة إلى الاتحاد السوفياتي حينها. تلك كانت المقدمة لانهيار تلك الإمبراطورية. وفي المقابل، مِن السعودية أيضاً أطلق ترمب شراكة إيجابية مع المنطقة الأكثر حيوية وخطراً وحساسية في العالم... وحرباً على الخطر الأكبر على عالمنا «الإرهاب».
تُغفل هذه «السلطة الرابعة» وتنكر على ترمب ما قد يشكل الحدث التاريخي بعد خطوة ريغان تلك؛ خطوة سيذكر التاريخ أنها غيّرت العالم. بالنسبة لنا، بصفتنا أصحاب قضية، أول ثمارها سيكون الخلاص من السرطان الإيراني. ومَن يَعشْ، يرَ.
وحسبنا في سوريا أن نكون الساحة التي كانت مقدمة في أحداثها إلى ما قد يغيّر العالم. ونأمل في أن يكون إلى الأفضل؛ رغم أن ما دفعناه من أرواحنا ودمنا يفوق التصوّر.
على كل، تاريخياً، سوريا مهد الحضارات، فليس غريباً عليها أن تساهم - حتى ولو على حساب دمها - في تاريخ البشرية وتغيّرها إلى الأفضل.
وأخيراً، وعود على بدء - وليس دفاعاً عن ترمب - الرأفة بالعباد أيتها «السلطة الرابعة».
* إعلامي وأكاديمي سوري، ومستشار «الهيئة العليا للمفاوضات»
لم تقتصر قوة هذه «السلطة الرابعة» على ما استمدته من حظها في الدستور الذي عزّزها بقوة القانون. ولكن ما دجّجها بسطوة جبارة هو اندماجها بالمؤسسات الاقتصادية الأقوى في ذلك البلد، وعالمياً عبر ارتباطها العضوي بالمؤسسات الأقوى اقتصاديا المتمثلة في مؤسسات المال والسلاح والنفط والتقانات.
من هنا صار السياسي الذي يكسب ودها أسطورة لا تتزحزح، ومَن يناكفها في خطر محدق؛ وكي تصمد في وجه تلك «السلطة الرابعة»، لا بد من ارتباط مع المؤسسات الأخرى؛ وحتى تلك أحياناً لا تنفع. مَن تفضّله أو من تتعهده يسد، ولو كان «خرقة»؛ ومن تستعديه يترنح، ولو كان «فلتة زمانه». مِن هنا، قِيل بأن هذه السلطة لا تُعادى.
هناك على أي حال استثناءات.
هذه السلطة أحبّت الرئيس باراك أوباما، فسدّت ثغراته وحمته كثيرا، فجعلت – باعتقادي - ممن سقفه إدارة شركة محاماة شبه فاشلة يحكم بلداً جباراً ويحدّد قضايا مصيرية عالمية ثماني سنوات. لكنها أحبّت هيلاري كلينتون، ولم تتمكن من أن تأتي بها إلى الرئاسة التي أيضاً لا تستحقها؛ برأيي.
في بداية السبعينات شوّهت أهم جنرال أميركي في فيتنام، الجنرال وليم ويستمورلاند وأنزلته عن عرشه. وأزاحت أحد أهم الرؤساء الأميركيين... ريتشارد نيكسون، الذي حيّد الصين وسلخها عن الاتحاد السوفياتي؛ لكنها في الوقت ذاته حمَت بيل كلينتون المطعون في أخلاقه الشخصية.
والآن، ما قصة هذه «السلطة الرابعة» مع الرئيس دونالد ترمب؟
لو أن إمبراطورية تعرضت لـ«التسونامي» الإعلامي الذي يتعرض له ترمب منذ بداية حملته الانتخابية وحتى اللحظة، لأضحت هباءً منثوراً. صحيح أنه مادة ممتعة ومثيرة وإشكالية تحتل الموقع الأول في أي أجندة إعلامية. صحيح أنه ناصب الإعلام العداء وتعرّض له بشكل مثير للعدائية. إلا أن الصفة العامة للتناول الإعلامي لترمب تغلب عليها السلبية والاستهداف المدمر، الذي لا يتناسب حجما مع زلاته الجاذبة جداً للإعلام؛ فحتى لو كان الهدف غير متوازن... فلا بد لوسيلة الإعلام من التوازن والمهنية العالية كي تحافظ على المصداقية التي هي رأس مالها الأساسي.
إننا إذا ما تفحّصنا - وبشكل عابر - طبيعة تغطية «السلطة الرابعة» في أميركا لزيارة ترمب للمملكة العربية السعودية، نجد أنها كادت ترسمها كـ«حدث» يجري في مكان بعيد لا يعني الأميركيين. ثم هناك الأمر الأهم وهو «عمالته» المزعومة للروس، الذين - وفق الإعلام المعادي للرئيس الأميركي - «تدخلوا بجلبه لرئاسة أميركا». الانشغال الإعلامي كان يتمحوَر حول هذه النقطة في مختلف الشبكات والمحطات والمؤسسات الإعلامية الأميركية وتوابعها، ابتداءً من «سي إن إن»، وانتهاءً بأصغر محطة أو صحيفة تعتمد على مصادر إعلامية أميركية. لقد ركّزت كل هذه في تغطيتها على تناقضات الرجل؛ فهو - في رأيها - يسعى إلى إصلاح وحتى مسح ما خرّبه لشهور خلال حملته الانتخابية تجاه الإسلام والمسلمين؛ وكادت لولا «الضرورات المهنية» تصفه بالمنافق.
بخصوص مسألة «الإرهاب»، اعتبرت ما يقدمه ترمب ليس أكثر من تنظير، وكادت تكون لسان حال الإعلام الإيراني عندما رأت وجوب حديث ترمب عن «الوهابية» في السعودية. وقرّعته لأنه يتحدث فقط عن إيران دون أن يأتي على ذكر الدور الروسي العبثي؛ وكأنها تغمز مذكّرة إياه بارتباطه مع الروس، ولذلك لم يذكرهم. وفي جانب ثالث في المرافعة عن إيران، قالت إن علينا أن نعرف أن التصادم مع إيران يعني التصادم مع أوروبا بحكم أن أوروبا شريك في الاتفاق النووي. وفي جانب رابع من المرافعة عن إيران قالت إن انتقاد سجل حقوق الإنسان في إيران يستلزم أيضاً انتقاد سجل حقوق الإنسان في دول الخليج.
مقدّرة هذه الحرية التي يتصرف بها الإعلام؛ إنها الحالة الصحية نحو مجتمع عفي قوي يصون الوطن وأهله. ولكن أن لا ترى إلا سواداً وبؤساً وسلبية بمن أُعطيت الحق بتصويره وتسليط الضوء عليه، فهذا سوء استخدام للسلطة، وما هو من المسؤولية والوطنية بشيء...
ما هذه المؤسسات الإعلامية بدكاكين من العالم الثالث تسوقها العواطف و«الشخصنات» والمرامات ومشاعر الحب والكراهية والانتقام. نحن نتحدث هنا عن سلطة رابعة ملحوظ دورها في دستور له مكانته عند أهله.
لا بد أن يأخذ مراقبون متوازنون على هذه السلطة أنها لم ترَ مثلاً فيما قام به دونالد ترمب في رحلته فعلاً أقل ما يُوصف به أنه تاريخي؛ وربما يفوق ما قام به الرئيس رونالد ريغان عام 1982 خلال زيارته إلى لندن. ويذكّرنا نيوت غينغريتش، رئيس مجلس النواب الأميركي السابق، أنه من هناك أطلق ريغان عبارته المشهورة The Evil Empire - «إمبراطورية الشر» - للإشارة إلى الاتحاد السوفياتي حينها. تلك كانت المقدمة لانهيار تلك الإمبراطورية. وفي المقابل، مِن السعودية أيضاً أطلق ترمب شراكة إيجابية مع المنطقة الأكثر حيوية وخطراً وحساسية في العالم... وحرباً على الخطر الأكبر على عالمنا «الإرهاب».
تُغفل هذه «السلطة الرابعة» وتنكر على ترمب ما قد يشكل الحدث التاريخي بعد خطوة ريغان تلك؛ خطوة سيذكر التاريخ أنها غيّرت العالم. بالنسبة لنا، بصفتنا أصحاب قضية، أول ثمارها سيكون الخلاص من السرطان الإيراني. ومَن يَعشْ، يرَ.
وحسبنا في سوريا أن نكون الساحة التي كانت مقدمة في أحداثها إلى ما قد يغيّر العالم. ونأمل في أن يكون إلى الأفضل؛ رغم أن ما دفعناه من أرواحنا ودمنا يفوق التصوّر.
على كل، تاريخياً، سوريا مهد الحضارات، فليس غريباً عليها أن تساهم - حتى ولو على حساب دمها - في تاريخ البشرية وتغيّرها إلى الأفضل.
وأخيراً، وعود على بدء - وليس دفاعاً عن ترمب - الرأفة بالعباد أيتها «السلطة الرابعة».
* إعلامي وأكاديمي سوري، ومستشار «الهيئة العليا للمفاوضات»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق