في سلسلة السياسة والدين، صدر لـــ عبدالإله بلقزيز كتاب يحمل عنوان «الدولة والدين» في الاجتماع العربي الإسلامي (عن «منشورات منتدى المعارف») طبعة أولى بيروت 2015.
يستخدم عبدالإله بلقزيز أسلوب طرح الأسئلة الصعبة قبل أن يجادل تقديم أو تلمس إيجابات تلامس الوعي العام في
مسائل عدة إحدى تلك الإشكاليات كيف أمكن أن يتحول الدين (الإسلام) من عقيدة للأمة جمعاء، إلى أيديولوجيا سياسية.
في سباق الصراع على السلطة.
كيف أمكن لبعضهم مصادرة الإسلام وتقديم رواية مختلفة عنه إلى درجة ممارسة حد القتل عليه؟
كيف أمكن أن يحول دين توحيدي جامع، إلى موضوع نزاع وسبب للانقسام والفرقة والحرب الأهلية؟
كيف أمكن التزوير الصارخ لصورة الإسلام والذهاب به إلى مآلات دراماتيكية. أسئلة وأخرى تفتح باباً لنقاش تحليلي عميق للظاهرة «النازلة أو المحنة» الكبرى التي يعيشها الإسلام المعاصر، لا سيما الإسلام السياسي منه، يتوسل معها عبدالإله طرق وأدوات البحث العلمي، والخبرة التاريخية في الشؤون العربية والإسلامية.
يحتوي الكتاب على مقدمة وثلاثة أقسام:
القسم الأول: «موضوعات نظرة وتاريخية في الدولة والدين». وفي فصلين الأول: «الدولة والدين في الاجتماع السياسي»، والفصل الثاني: «الديني والسياسي في السياقات المعاصرة».
القسم الثاني: الدولة والدين: علاقات تبادل ومنه فصل عن الدين والدولة والحاجات الافتراضية، وعما إذا كانت الدولة بحاجة إلى الدين؟ وفصل آخر عن الدين والدولة والحاجات الافتراضية وآخر عن المذهبية والتمذهب.
القسم الثالث: «الإسلام السياسي» المعاصر وفيه فصل عن «الإسلام السياسي» وآخر عن اجتماعيات «الإسلام الحزبي» وفصل ثامن وأخير عن «حصاد الإسلام الحزبي».
هنا نقتطف من الإصدار: مدخل تمهيدي.
لا يمثل التداخل المتزايد بين الدين والسياسة في المجتمعات العربية اليوم، بل منذ عقود، إلا وجهاً من وجوه أزمة السياسة والدولة في بلادنا. لكنه وجه رئيس لا معنى لاستصغار شأنه، أو استسهال مقاربته، أو التهوين من نتائجه الواقعة والمحتملة، كما يمكن أن نقرأ في كتابات تعترف بالمشكلة، لكنها تفترض إمكان استيعابها سريعاً. تبدو الأزمة هذه مستفحلة في الفترة الحاضرة، في معظم تلك المجتمعات، وإن بدرجات متفاوتة، وإلى حدود يُخشى من ان لا تصبح السيطرة عليها ممكنة. فهي، في بعض من البلدان العربية، في أطوارها الابتدائية: أزمة ثقة متبادلة بين قوى سياسية نتيجة فقدان المشترك الثقافي ـ السياسي الذي يقوم عليه مشروع مجتمعي جامع لا غنى لدولة، أية دولة، عنه. وهي، في بعض ثان منها، أزمة وجود في كيان الدولة ذاته: تتجمّع فيها ـ وبها ـ عناصر التفجر والتدمير التي تأتي عليه إن انفجرت مادتها الحارقة.
نشهد صُوراً ونماذج من حالتي الأزمة تلك في الحياة السياسية العربية المعاصرة. تكاد معطياتها أن تتشابه من فرط تكرار وقائعها المتعاقبة، بالملامح العامة عينها، وبالعناوين والمفردات نفسها، وبأدوات توشك ان تصبح واحدة. لكن تباينات بينها تفرض نفسها ـ أحياناً ـ على ملاحظها في العموم، وهي قابلة للتفسير من طريق ردها إلى أسباب مكينة: التفاوت في التطور بين البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية العربية، نوع الصلات والعلاقات التي تقوم وتنتظم اشتغالا بين قواها الاجتماعية والسياسية، مستوى الوعي السياسي لدى النخب، نِسبُ القوة بين القوى المحافظة والقوى الحديثة في المجتمع، درجة التطور أو الاتساع في المجال السياسي، إلى غير ذلك من أسباب.
في نماذج أقل حدة وخطراً لأزمة السياسة والدولة نجدنا أمام صراعات على السلطة تفيض وقائعها والنتائج عن قدرة مؤسسات المجتمع السياسي على الاحتواء أو الاستيعاب، فينجم من ذلك انسداد في الأفق السياسي وجنوح لحسم صراعات سياسية بأدوات ثقافية (= دينية)، وهذا هو الغالب على أوضاع السياسة وصراعاتها في البلاد العربية المعاصرة. أما في النماذج الأشد حدة وخطورة لتلك الأزمة فتذهب الصراعات على السلطة إلى التعبير عن نفسها انفجاريا، أي إلى حسم صراعات سياسية بأدوات غير سياسية: مسلّحة مثلا. وهذه حال قسم من البلاد العربية انفتح مستقبله على المجهول حين غمره العنف واستوطنت حياته السياسية ثقافة الإنكار والإلغاء والمحو المتبادلة. على ان هذا الوجه الحاد من أزمة السياسة والدولة في الوطن العربي يفصح عن نفسه من خلال حالتين متفاوتتين في الخطورة: العنف السياسي والحرب الأهلية.
يعبّر العنف في السياسة عن ضيق خانق في أفق السياسة، وعن جنوح للتعويض عن النقص الفادح في شروطها كمنافسة مدنية سلمية على اكتساب السلطة، أو من أجل المشاركة فيها، أو قصد تحصيل حقوق مهضومة، أو من أجل الدفاع عن مصالح… الخ. عُرّفت السياسة بأنها الحرب ولكن بوسائل أخرى، وهي كذلك في التاريخ كما هي في هذا التعريف الدقيق لها: فالأهداف والغايات التي يبتغيها الناس (الجيوش، الدول، المجتمعات) من الحروب التي يخوضونها هي عينها التي يخوضون فيها من طريق السياسة، أي بوسائل غير مسلحة أو دموية. على ان هذا التعريف إذ يقرن بين معنى السياسة ومعنى الحرب من حيث ما بينهما من اقتران في الوجهة المقصودة، أو من اشتراك في الأهداف والغايات، لا يُغني عن الحاجة إلى التشديد على ان السياسة ما وُلدت في تاريخ الاجتماع الانساني إلا كي تمنع الناس والمجتمعات عن مقاتلة بعضها بعضا من أجل الظفر بما يتقاتلون من أجله. إن الدولة والسلطة والسياسة ما تولّدت في تاريخ ذلك الاجتماع إلا من أجل ان تزع وتردع وتنظم البقاء الإنساني، من طريق تنظيم الصراع الاجتماعي وضبطه بقواعد قابلة للاحترام وللاحتكام اليها. درس خلدوني قديم أعاد التأكيد عليه توماس هوبس، واستقى مادته من أصول أرسطية.
[ الوازع
قد يكون الوازع (=الرادع) طبيعيا، أي من طريق الامتثال لقوانين الطبيعة التي تقضي بالحق في حفظ النوع البشري (أرسطو، ابن خلدون، هوبس، جان لوك…)، وقد يكون دينيا يقتضيه الشرع ويحكم به (= السياسة الشرعية) كما أقر ذلك فقهاء الإسلام (الماوردي، ابو يعلى، الجويني، ابن تيمية…) ومفكروه (ابن خلدون) وفلاسفة اللاهوت المسيحيون (القديس اوغسطين، توما الأكويني…)، كما قد يكون عقليا حين ينتظم أمره بمقتضى قوانين العقل (= السياسة العقلية) على نحو ما قرر ذلك فلاسفة كبار (أرسطو، الفارابي، ابن خلدون، ماكيافيلي، جان لوك، سبينوزا، هيغل…). لكنه في الأحوال جميعاً وأيا يكن مصدره، الوازع الذي لا تتهذب منازع الشر والقتل والعدوان في الإنسان، ولا يكف العنف في العلاقات الإنسانية، إلا به. وليس من شك في أن الديموقراطية، بما هي نظام سياسي حديث، وبما هي علاقة حاكمة للدولة والمجتمع والمؤسسات، تمثل أرقى صور التعبير عن ذلك الوازع الضابط وأكثر أشكاله فعالية في تاريخ الاجتماع الإنساني. ففي نطاق قيمها وقواعدها ومؤسساتها أمكن للسياسة أن تتهذب وأن تتشذب من أخلاط غير سياسية، لأنه أمكنها ان تقوم على مقتضى الاتفاق والتعاقد والإرادة العامة، وأن توفر المساحات المناسبة للتعبير عن الحقوق ولتحصيلها على نحو شرعي، وأن توفر الأقنية المناسبة لتصريف الصراعات الاجتماعية تصريفا طبيعيا وانسيابيا من دون تعريض النظام السياسي للانسداد والنظام الاجتماعي للاهتزاز وعدم الاستقرار.
نفهم، في ضوء هذا، معنى قولنا ان العنف تعبير عن ضيق في أفق السياسة، وعن جنوح للتعويض عن النقص في شروطها، إذ السياسة ـ تعريفاً ـ منافسة مدنية سلمية، لأنها تكون محكومة، ضرورة، بقواعد تضع فواصل وحدود بين الحق والواجب، الحرية والفوضى، العام والخاص…الخ، وهي فواصل وحدود لا سبيل إلى تصور إمكان قيام حياة عامة (= مجتمع سياسي)، وتعايش وسلم مدنية، من دونها. وحين لا تمارس السياسة بهذا المعنى المدني السلمي، فيجنح من يمارسها إلى استخدام أدوات غير سياسية، مثل العنف المسلح، تكف عن ان تكون سياسة وتتحول إلى أي شيء آخر غير السياسة، لأن فعل العنف ينتهك قاعدتها. وهو ينتهكها في جميع الحالات، وأيا يكن مصدره: السلطة الحاكمة أو قوة من قوى المجتمع.
ومن أسف ان بلادنا العربية ما تشهده اليوم ـ بل منذ ردح غير قصير من الزمن ـ إلا هذا العنف في مشاهد متلاحقة منه يكاد لا يتصرّم واحدها حتى يعقبه الثاني في صورة أشد هولاً وفداحة! ونحن نعاني، مثلما ذكرنا، شكلين منه في اجتماعنا السياسي، متفاوتين في الحدة والنتائج، لكنهما ليسا متباعدين أو متمايزين في الطبيعة، حتى لا نقول إنهما لحظتان قابلتان لأن تعقب ثانيتهما الأولى.
[ العنف السياسي
الأول منهما العنف السياسي الذي يغمر حياة قسم من المجتمعات العربية منذ عقود، ويحول الحياة السياسية فيها إلى معركة دموية مفتوحة بين قوى يشدها بعضها الى بعض هدف سياسي واحد: الإلغاء والمحو، ويتسوّغ عندها توسل الأدوات كافة في سبيل ذلك، حتى وإن كانت غير سياسية أو غير متعارف عليها في الحياة السياسية، حتى وإن افتقرت إلى أية شرعية أخلاقية! ليس ما تقوم به جماعات سياسية متطرفة، تحمل أفكاراً دينية مغالية وتكفيرية، من اغتيالات وتفجيرات تطول أفراداً وأجهزة رسمية ومرافق عامة باسم «الجهاد«، وما ترد به سلطات من حروب استئصال على تلك الجماعات، أو من تشديد للإجراءات الأمنية القمعية على أي نشاط سياسي، أو من إعدام للحياة السياسية ودمغ معارضيها بالعملاء أو الارهابيين… إلا القليل القليل من معطيات سيرة العنف السياسي الذي تتلاحق وقائعه على مسرح الحياة العامة في كثير من المجتمعات العربية اليوم، فتهدد استقرارها والتعايش والسلم المدنية بالانهيار الشامل.
[ الحرب الاهلية
والثاني منهما الحروب الأهلية التي شهدها قسم ثانٍ من مجتمعاتنا في العقود الأربعة الأخيرة وغرّمتها الكثير من حياة أبنائها، وإرادة التعايش فيها، وأوضاع الاستقرار، على مثال ما عايناه ونعاينه من حروب ضربت الاجتماع الوطني في لبنان والسودان والعراق والصومال، ومزّقت الوحدة الوطنية فيه. إذا كان العنف السياسي الذي ضرب مصر والجزائر وبلدان أخرى، في العقود الماضية، شكل ما يشبه حرباً أهلية صامتة، أو تمريناً سياسياً على تلك الحرب، فإن ما وقع على بلدان الحروب الأهلية لم يكن قليل الشأن في نتائجه: من تمزيق النسيج الوطني وتبديد مكتسبات الوحدة الكيانية ـ كما في لبنان والعراق واليمن والصومال ـ إلى الانفصال كما في السودان! والأدعى إلى المخافة ان الفصول الدموية لهذه الحروب الأهلية ـ وهي سياسية بالتعريف وتترجم حال الأزمة التي تستبد بكيان الدولة الوطنية في البلاد العربية ـ إنما جرت تحت عنوان ديني وطائفي ومذهبي في الأغلب الأعم منها، تماما كما اتخذ العنف السياسي عناوين دينية «جهادية«! وهو ما يعيد طرح مسألة العلاقة بين الدين والدولة، الدين والسياسة، في الاجتماع العربي المعاصر، أمام التفكير بل أمام نظرة جديدة للمسألة الدينية، وتحديداً لموقع الدين في الدولة، وعلاقة السياسي بالديني في تشكيل المجال السياسي وفي نظام اشتغال الدولة. وينبغي لمثل هذا التفكير ان يسلك سبيل مقاربة معرفية متعددة الأبعاد والأدوات بحيث تستفيد من مناهج علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع الديني.
من البين، في ضوء معطيات السياق السابق، ان ازمة الدولة والسياسة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة هي، في وجه كبير منها، أزمة في علاقتهما بالدين أو في علاقة الدين بهما. والأزمة في هذه العلاقة إنما هي من فعل السياسة لا من فعل الدين، فالذين يؤسسون لها، ويصنعون لها أسبابها، ويديرون وقائعها وفصولها، إنما هم يفعلون ذلك لأغراض سياسية لا علاقة للدين بها، حتى وان استخدموا في ذلك مفردات الدين، وادعوا ما بينه والسياسة والدولة من صلة: حاكمين كانوا أو معارضين. فالدين – أي دين – نصوص صامتة بين دفتين (=كالقرآن في وصف شهير للإمام علي ابن ابي طالب)، والرجال هم من يُنطقون تلك النصوص على نحو من الأنحاء وتبعاً للمصالح التي تحملهم على انطاقها على هذا المقتضى أو ذاك. لذلك كان معلوماً في تاريخنا العربي الاسلامي – قديماً وحديثاً – أنه ظل في وسع الطغاة ان يحكموا، طويلاً، وان يبرروا استبدادهم بالدين وبوجوب طاعة اولي الامر القائمين على «حراسة الشريعة» وسياسة الدنيا بها، مثلما ظل في وسع معارضيهم محاجاتهم بالقول ان الدين ما أتى الا رحمة للعالمين، وان «الحكم بما انزل الله» من أحكام، تقضي بالعدل والنَّصَفَة، إنما يكون من طريق اقامة نظام سلطة عادلة. وظل في وسع المحافظين ان ينالوا من حقوق المرأة باسم تعاليم الدين، مثلما ظل في مُكن المتنورين ان ينصفوها في تلك الحقوق باسم التعاليم عينها.. وهكذا دواليك.
يسعنا ان نحسب المعركة هذه – وهي ممتدة منذ فجر الاسلام – معركة تأويل. وهي كذلك، لان النصوص ليست ناطقة بذاتها، مثلما قلنا، وانما محمولة على معان ومضامين يقررها المؤولون. لكنها، وعلى ما توحي به من طابع فقهي او لاهوتي او فكري، معركة سياسية في المقام الأول، وهي لا تكسب بأدوات الفكر وأسانيده، من حجة عقلية وصواب في الرأي وما في معنى ذلك، وإنما تكسب بأدوات السياسة وثقل قوتها في الميزان، حيث في حدها «الحد بين الجد واللعب»، على قول ابي تمام. هذا ما يفسر لماذا أمكن افكاراً بعينها ان تنتصر في تاريخ الإسلام وتتحول الى عقيدة رسمية أو مذهب سائد في منطقة ما، وفي حقبة تاريخية ما؛ فلم يعد يسع احداً اليوم ان يجادل في ان سيادة عقيدة الاعتزال انما كانت بسبب اعتناق خلفاء بني العباس الأول لها، وان انتشار الاشعرية في العقيدة انما كان باعتناق الدولة لها منذ عهد العهد العباسي الاول، وأن انتشار الماتريدية في آسيا الإسلامية شرق فارس وشمالها انما حصل لأسباب سياسية، وأن المالكية في بلاد الغرب الإسلامي تدين في انتشارها للدولتين المرابطية والموحدية، كما تدين الحنفية في انتشارها للدولة العثمانية… الخ.
[ فعل التأويل
إذا ما أخذنا بمكتسبات الدرس الهيرمينوطقي (التأويلي) الحديث، تبينا ان معنى النص، اي نص، ليس أوحدي الابعاد ولا يشتق من النص بزعم ان النص يحمل معناه ضرورة او يكتنه ذاك المعنى، وانما معنى النص يتولد من علاقة بين الخطاب والتلقي. المتلقي ليس متبلغا المعنى فحسب، ليس مخاطبا سلبيا يستقبل خطابا جاهزاً وناجزاً، وإنما هو قارئ للنص الذي يستقبله او بتلقاه ومشارك، بالتالي في تشكيل معناه، تتوسط بين الخطاب والتلقي شبكة واسعة من الأدوات والوسائط والمرجعيات والأوضاع التاريخية والنفسية هي التي تؤسس فعل القراءة وتوجهه نحو هذه الوجهة او تلك. لذلك تختلف القراءات للنص الواحد باختلاف الشبكات – هذه – التي تؤسسها. وإذا اخذنا في الحسبان ان من العناصر المؤسسة في كل قراءة ما يتعلق بالمصالح الاجتماعية والسياسية، أدركنا لماذا يقع الاختلاف بين الافراد والجماعات في «فهم» النص عينه، اي قراءته، ولماذا ينقسمون الى مذاهب وفرق وأحزاب: وهو عين ما حصل في تاريخنا الديني والثقافي والسياسي العربي الاسلامي وفي تاريخ غيرنا من الأمم.
ليس الاختلاف في الرأي والموقف – وهو يؤسسه الاختلاف والتباين في الشبكات التي يتكون منها فعل القراءة – اختلافاً ثقافياً أو فكرياً فقط وعلى نحو حصري، وإنما قد يكون مرده الى عوامل أخرى غير ثقافية، الى المصالح الاجتماعية وتضاربها، وإلى الأغراض السياسية واختلاف مقاصدها، والى الأهواء الايديولوجية وتنازعها …الخ.. فهذه، وسواها من عوامل اخرى، تدخل في تكوين نسيج القراءة أو التلقي للنص – وبالتالي – في تكوين الرواية عنه بما هي نوع من الفهم له محكوم بشروط الفهم التي المحنا اليها. أما تقديم الرواية تلك بوصفها «حقيقة» النص، أو كهنه وجوهره، فهو مماهاة لا يقصد بها سوى حيازة سلطة مادية من وراء الزعم انها تنهض على سلطة الحقيقة؛ ذلك ان احتكار الحقيقة لا يبرره غير السعي في احتكار السلطة، وهو منال يرغب فيه اكثر كلما كانت الحقيقة تلك من جنس الحقائق العليا غير النسبية.
هذه مقدمات نظرية سريعة للقول ان التفكير في جدلية الديني والسياسي، ومنها الجدل حول علاقة الدولة بالدين، يقتضي الانتباه الحاد الى جوهرها السياسي، والاحتراس الشديد من الوقوع في خطأ حسبانها قضية فكرية، أو فقهية، أو تقبل الحل على مقتضى ادوات الاقناع. نعم، هي في جملة ما لا يمكن الخوض فيه الا بتفاهم بين المتجادلين فيها على قواعد الجدل بينهم، لكنها – حكما – مما لا يفصل في الخلاف بين الناس فيها سوى ميزان القوى والمصالح، علماً بأن في عداد هذه المصالح ما يمكن ان يكون مصلحة للعموم يجري عليها التفاهم والتوافق؛ إذ السياسة لا تحسم خلافاتها والنزاعات على نحو دارويني حصراً، وإنما في المكن تهيئة نهايات اخرى سلمية لمسائل نزاعية شائكة، مثل هذه التي تتحدث فيها، ان حكمت المصلحة العامة وغلبت كفتها على كفة المصالح الفئوية.
على ان التشديد على سياسية مسألة الدين والدولة، أو على جوهرها السياسي، إنما هو تشديد على ماهيتها فحسب، أما النظر اليها والتفكير في تشابك خيوطها، فلا يمكن ان يكون بعقل سياسي وانما بعقل نظري. ولذلك، فان التفكير فيها هو من مهمات الباحثين، ابتداء لا من مهمات السياسيين، وان كان على الاخيرين ان يتناولوها بالحلول العملية التي ينبغي – قطعاً – ان تسترشد بنتائج المقاربات الفكرية لها من المواقع والميادين المعرفية كافة: تاريخ الفكر، الفكر السياسي، علم الاجتماع السياسي وسوى ذلك…
المصدر: المستقبل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق