السلطات المصرية تواجه تحديات كثيرة لتكريس عصرنة التعليم وعلى رأسها خفوت نجم هذا الاتجاه لصالح عودة شعبية المعاهد الأزهرية مرة أخرى.

لم يخطر في مخيلة عادل محمود، وهو أب مصري ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، أنه سيأتي اليوم الذي يُلحق فيه أولاده بالتعليم الأزهري، لكنه اضطر لهذه الخطوة بعد أن ضاق ذرعا بالتخبّط الحاصل في إستراتيجية تطوير التعليم العام على مدار السنوات الثلاث التي مضت، وانعدام وضوح رؤية الحكومة حيالها.
ولا ينكر محمود أنه طوال حياته كان ينظر بريبة إلى التعليم الديني ومناهجه وطريقة التدريس فيه، لكنه أصبح البديل الأكثر أمانا واستقرارا لعدم مسايرته للتطوير العشوائي الحاصل في المدارس الحكومية، ولأن المعاهد الأزهرية حافظت على مناهجها التقليدية حتى لا تخسر قاعدتها المجتمعية وإن جازفت بالتطوير في برامجها الدراسية.
وتتعامل عشرات الآلاف من الأسر المصرية مع التعليم الأزهري باعتباره المنقذ لأولادها، فرغم أن أغلب الآباء ليسوا من هواة هيمنة الدين على العقول في ظل الانفتاح والعصرنة لكنهم مضطرون لذلك بسبب غياب الإستراتيجيات الحكومية الواضحة والشعور بأن مستقبل أبنائهم يشوبه الخطر والمصير المجهول.
وتؤكد هذه الظاهرة أن تغيير العقلية المصرية وتحررها من الهيمنة الدينية يواجهان تحديات معقدة، وتكمن المعضلة الكبرى في أن الحكومة ما زالت غير مدركة للتبعات السلبية للردة المجتمعية التي أصبحت واضحة في الهروب من التعليم العام إلى الأزهري، بعدما كان يحدث العكس في السنوات التي لحقت سقوط نظام حكم الإخوان، وتركهم صورة سيئة عن كل ما يرتبط بهيمنة الدين على حياة الناس وسلوكياتهم.

خالد منتصر: العودة للتعليم الأزهري تكشف تغلغل السلفية في مصر
وشرعت الحكومة قبل ثلاث سنوات في تطوير نظام التعليم بالمدارس الحكومية على مستوى المناهج وطريقة الامتحانات، وجرى التوسع في الاعتماد على التكنولوجيا وإقرار نظام تدريس وتقييم يعتمد على الفهم والتحليل وإعمال العقل والمنطق والتحليل والنقد بعيدا عن الحفظ والتلقين بعدما وجدت أن الوضع القائم لم ينتج سوى خريجين لا يواكبون متطلبات العصر.
وكان الهدف من خطة تطوير التعليم العام إعادة بناء الشخصية المصرية بشكل يتواكب مع خطة التنمية المستدامة 2030، ليكون الإنسان المصري أكثر مدنية وانفتاحا ويؤمن بالتسامح والمواطنة والتعايش السلمي، حيث تصبح الأجيال الشابة نواة يتأسس عليها مجتمع يصعب اختراقه من قبل التنظيمات الإرهابية أو استقطاب عناصره.
مجتمعان متقابلان
تكمن المعضلة التي واجهت الحكومة في طريق عصرنة التعليم في أن مؤسسة الأزهر بمعاهدها الدينية التي ما زالت تشبه الكتاتيب في حقبة الستينات رفضت تطبيق خطة تطوير التعليم واتبعت أسلوب المماطلة والتسويف وكسب الوقت واستمرت على نهجها التقليدي المنغلق أملا في استقطاب الناقمين على الارتباك الحاصل في المدارس.
وتمثلت المشكلة في أن المعاهد الأزهرية تمسكت بتطبيق نظام التلقين والحفظ، وقطعت كل الطرق التي من شأنها تغيير أفكار وقناعات الطلاب وقدرتهم على النقد والتحليل والتفكير والنقاش، حتى أصبح هناك مجتمعان دراسيان، أحدهما يسير في طريق معاصر رغم الارتباك في طريقة التطبيق، والآخر يخاطب الماضي ولا يستطيع الدارسون فيه الخروج من دائرة التلقين والاستسلام لما يُملى عليهم من أفكار ودروس قديمة.
ووجدت الحكومة نفسها في تحدٍ صعب، فالشريحة من كبار السن يصعب تغيير قناعاتهم بسهولة تجاه الانفتاح والمدنية والتحرر من هيمنة الدين، لأنهم اعتادوا تقديس الفتوى وآراء أصحاب العمامة، والشريحة التي ما زالت في طور النشء، وهي الأمل في تأهيل المجتمع وتصحيح مساره أصبحت نسبة كبيرة منها تفضل المعاهد الأزهرية، حتى تشعبت التحديات أمام القضاء على سطوة الدين على الحياة العامة للناس.
وزير التعليم وشيخ الأزهر
ترتب على التخبط الحاصل في البيئات التعليمية أن العام الدراسي الماضي قد شهد زيادة تقترب من مئة ألف طفل في عدد الملتحقين بالمعاهد الأزهرية مقارنة بسنة 2019، في حين هرب أكثر من 25 ألف طالب من مدارس التعليم العام لاستكمال دراستهم في المدارس الدينية، والنسبة مرشحة للارتفاع خلال شهر يونيو الجاري.

بثينة عبدالرؤوف: طالما استمرت جاذبية التعليم الأزهري يصعب فرض نظام عصري
وأصبحت هناك تحديات كثيرة تواجه السلطات المصرية لتكريس عصرنة التعليم، وعلى رأسها خفوت نجم هذا الاتجاه لصالح عودة شعبية المعاهد الأزهرية مرة أخرى، لكن ذلك لا يرتبط بتخبط قرارات الحكومة حول السياسة التعليمية بقدر ما نجحت المؤسسة الدينية في التماهي مع الشارع واسترضاء الناس لتقوية نفوذها واستقلاليتها.
وعندما غامرت الحكومة العام الماضي برفع مصروفات المدارس الحكومية التي تطبق نظام التعليم العصري بأكثر من 200 في المئة، وامتعض الناس من الخطوة لتأثيرها السلبي على أبناء الأسر ضعيفة الدخل، استثمر الأزهر الفرصة وقرر عدم تحريك المصروفات وأبقاها كما هي أقرب إلى المجانية بدعوى مراعاة ظروف الناس.
وصدرت للمعاهد الأزهرية الخاصة قرارات صارمة من مشيخة الأزهر بعدم زيادة أسعارها إلى حين انتهاء التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا، في حين كان أولياء أمور تلاميذ المدارس الخاصة أكثر تذمرا من زيادة مصروفاتها بقرار من وزارة التعليم بنسب وصلت إلى أكثر من 20 في المئة.
وباتت الأسر الكادحة تتعامل مع المعاهد الأزهرية باعتبارها المنقذ من المصروفات الباهظة التي تفرضها المدارس الحكومية، وحال استمرت الاستقلالية المالية للمؤسسة الدينية مع تطبيق منظومة تعليمية قديمة، فذلك قد يمثل عبئا مضاعفا على الحكومة في طريق عصرنة الفكر ومدنية الدولة بعدما أصبح التعليم الديني الحاضنة لأبناء الشريحة المهمشة ماليا والممتعضة من السياسة التعليمية بالمدارس.
رغم توقيع اتفاقية مشتركة بين طارق شوقي وزير التربية والتعليم وأحمد الطيب شيخ الأزهر لتعميم تجربة التعلّم الإلكتروني وأسئلة الفهم والنقد والتحليل على المعاهد الأزهرية، وتطبيق تجربة التقييم من خلال أجهزة “التابلت”، جرى تجميد الخطوة ضمنيا من جانب المؤسسة الدينية أمام تصاعد غضب الشارع من الفكرة المطبقة بالمدارس العامة، واستمرت المعاهد الأزهرية على النظام التقليدي في كل شيء.
ورأى الكاتب المصري خالد منتصر أن الردة المجتمعية تجاه الهروب إلى التعليم الأزهري تحدٍ بالغ الصعوبة أمام تحرير العقلية المصرية من الهيمنة الدينية، لكنها تكشف عن سيطرة المزاج السلفي على المصريين، بدليل أنه صار هناك معهد أزهري في كل مدينة وقرية، وتداعيات ذلك خطيرة، لأن الأزهر بطبيعته لا يميل ناحية العصرنة، وهو ما ينتقل بالتبعية إلى مجتمع الدارسين تحت مظلته.
وقال لـ”العرب” إن التحدي الآخر يكمن في أن التعليم الأزهري أصبح يتيح للدارس الانفراد الحصري بالالتحاق بالكليات المرموقة التي لا يستطيع دخولها طالب التعليم العام، لأن المجاميع التي تحتاجها جامعة الأزهر أقل بكثير من نظيرتها الحكومية، وبضعف المجهود قد يصبح الشخص طبيبا ومهندسا، بعدما أغلق الأزهر الباب أمام طلبة التعليم العام لدخول كلياته.
ولفت إلى أن الإغراءات التي صار يقدمها الأزهر للمجتمع لزيادة نسبة الشغوفين بالتعليم الديني، خطورتها تكمن في أن الدارسين للمناهج الأزهرية لا يُتاح لهم إعمال العقل، والاستسلام لمبدأ النقل والحفظ والتلقين، وعدم التماهي مع متطلبات العصر والقضايا الراهنة.

المعاهد الأزهرية تمسكت بنظام التلقين وقطعت كل الطرق التي من شأنها تغيير قناعات الطلاب وقدرتهم على التفكير
وبغض النظر عن نوايا الأزهر في الجهاد من أجل استقطاب المزيد من طلاب العلم الديني، فمخاطر ذلك تكاد تكون أبعد من مجرد إضفاء المزيد من الهيمنة الدينية على المجتمع وإجهاض كل محاولات تحرر العقلية المصرية، ويكفي أن أغلب المناهج ما زالت أسيرة للتراث، حتى النظريات العلمية والفلسفية التي من المفترض أن تقود الإنسان إلى التفكير والإبداع هي أيضا مرتبطة بالدين.
ويعتقد بعض الخبراء من المتحفظين على استمرار التوسع في المعاهد الأزهرية أن المشكلة تحمل أبعادا أكثر تعقيدا، فطريقة التدريس بالتعليم الديني ما زالت قائمة على أن المعلم أقرب إلى الشيخ والواعظ ومهمته التلقين، ما يؤثر بالتبعية على شخصية وعقلية عناصر المجتمع التعليمي الأزهري الذين يتخرجون بنفس الطباع والسلوكيات، ويمارسون الوعظ الديني أكثر من نشر المعرفة والفهم والتحرر العقلي.
وتتقاطع هذه السمات مع مساعي الحكومة لتحجيم كل ما يدعو إلى السيطرة على عقول المجتمع على أساس ديني، باعتبار أن جماعات الإسلام السياسي تأسست في الماضي بطريقة التأثير في عقول الناس من خلال الوعظ والنقل الحرفي للنصوص دون نقد أو تحليل أو محاولة للفهم والاشتباك، كما يحدث في التعليم الأزهري، ما يعيد إنتاج جيل جديد لا يؤمن بحرية الفكر والإبداع والتعايش والمواطنة.
وتوحي الطريقة التي يروّج بها الأزهر لمؤسساته التعليمية بأنه ماضٍ في طريق تكريس وجود معاهده كجزء من الهوية المصرية، وهو تحدٍ مضاعف أمام الحكومة للتحرر من الهيمنة الدينية، ويكفي أنه صار لديه مجلس أعلى للتعليم الأزهري ليكون مستقلا عن أية قرارات فوقية تصدرها الدولة بشأن تطوير التعليم أو محاولة دمج التعليم الأزهري مع العام وإقرار مناهج وطنية موحدة.
وكثيرا ما أظهر قادة المؤسسة الدينية امتعاضهم من أفكار طرحتها بعض النخب الثقافية والسياسية بأن يتم تعميم مناهج تربوية عصرية بطريقة تقييم تخاطب العقل على جميع مجتمع الدارسين كنواة للمستقبل يتأسس عليها المجتمع الواعي الذي يقوم على التكافل والعدالة وحرية الاعتقاد، ليكون المراهقون والشباب بعيدين عن التشدد.
وظهرت نوايا الأزهر في إصراره على تكريس الهيمنة الدينية على المجتمع عندما أصدرت هيئة كبار العلماء بيانا حادا عام 2017 ضد دعوات تحرر المناهج الأزهرية لتخاطب العصر، وقالت إنه لا تراجع عن مواجهة كل محاولات إبعاد السنة والشريعة والتراث عن الدراسة بالمعاهد والكليات الدينية، ومن يحاولون تغيير هذا الواقع “أعداء الإسلام”.
صراع بين شريحتين

تكمن أزمة المناهج الأزهرية مقارنة بما تحاول الحكومة إقراره في إستراتيجية التعليم في أنها تجعل من الدين المرجعية الأساسية لتعاملات البشر مع بعضهم البعض في كل ما يرتبط بالنواحي الحياتية، ولا تعلم الطلاب المهارات العصرية والتفكير التحليلي ومعاداة التمييز والتطرف، وتغليب العقل والخبرة في مجابهة المشكلات، بل الاستناد إلى الدين في كل شيء وفتاوى التحليل والتحريم، أي أن البيئة التعليمية بدلا من أن تؤسس لكيان مجتمعي عقلاني، تعمل على تغييب إعمال العقل والتعامل بشكل منطقي وعقلاني في الحياة العامة.
وأكدت بثينة عبدالرؤوف الخبيرة التربوية بجامعة القاهرة أن هناك معضلة كبيرة تعيق خفوت شعبية المعاهد الأزهرية ترتبط بأن التعليم العام لم يستطع بعد استقطاب الشريحة التي تتعامل مع التعليم الديني باعتباره أساس التربية المعتدلة والصحيحة للأبناء، وطالما استمرت الجاذبية الدينية للتعليم الأزهري يصعب فرض نظام عصري.
وأوضحت لـ”العرب” أن أكبر تحدٍ أمام مواجهة الرجعية الفكرية استمرار وجود نظامين تعليميين، أحدهما ديني يخاطب الماضي، والآخر مدني ينشد الحداثة، والخطورة هنا مرتبطة باتساع الفوارق المجتمعية بين طبقة كادحة تجد ضالتها في المعاهد الأزهرية وثانية وسطى وعليا تذهب إلى التعليم الأجنبي بكل تحرره وانفتاحه.
الطريقة التي يروّج بها الأزهر لمؤسساته التعليمية توحي بأنه ماضٍ في طريق تكريس وجود معاهده كجزء من الهوية المصرية، وهو تحدٍ مضاعف أمام الحكومة للتحرر من الهيمنة الدينية
ووفق الباحثة فإن تداعيات ذلك سوف تظهر في المستقبل عندما تحدث خلخلة في مستوى التقارب الفكري بين الطبقات، فالشريحة التي تعلمت في الأزهر تربت على الاعتدال والاحتكام للدين في حياتها، بينما هناك طبقة عليا منفصلة عن هذا المسار كليّا، ما يسهل اختراق المجتمع لأنه غير موحد فكريا وقيميا، وقد تحدث نزاعات على أساس فكري وتظهر الهوية المشوهة.
وقد تواجه أيّ حكومة معضلة معقدة في توحيد الهوية المصرية، لأنه ستكون هناك واحدة إسلامية وأخرى غربية، والخطر إذا كانت هناك إرادة سياسية مستقبلية لإلغاء التعليم الديني، فمع وجود قاعدة شعبية تعتبره أساس الهوية والتربية الصحيحة من السهل إقناع المجتمع بأن هذه حرب على الإسلام ومحاولة لتدمير الأزهر.
وبعيدا عن مدى واقعية هذا الطرح ثمة عراقيل أخرى لتحرر العقلية المصرية قد لا تعيرها الحكومة اهتماما، وترتبط بفكرة الإجبار على التعليم الديني، فالطالب الذي يحوّل مساره من التعليم العام إلى الأزهري مغلوب على أمره من جانب أسرته، ولا يستطيع إبداء رأيه بالقبول أو الرفض، لأن عائلته تدّعي وحدها معرفة “أين تكون مصلحته وبأي طريقة يتم تأمين مستقبله”.
وترتبط المشكلة بأن الكثير من الملتحقين بالتعليم الديني مجبرون على حفظ القرآن والأحاديث ودراسة الشريعة والفقه وغيرها من العلوم الدينية، لأنهم لم يكونوا أصحاب قرار أو اختيار، ما يؤسس لوجود شريحة من المشوهين دينيا وثقافيا.
وأمام هذا الجدل وتصاعد التحديات صار حتميا وجود إرادة سياسية شجاعة للدخول في مواجهة أزهرية – مجتمعية لإقرار نظام تعليم موحد لكل الشرائح الطلابية بطبقاتها المختلفة، بمناهج حديثة متطورة تروج للانفتاح وتؤمن بحرية الفكر والإبداع والتعايش والحداثة، من منطلق أن المتطرفين بطبيعتهم يستهدفون بخطابهم التلقيني الشريحة التي تعلمت بطريقة ترتكن إلى الدين في كل مناحي الحياة، في حين أن الأجيال الجديدة عندما تنشأ على توعية وفهم تكبر على استنارة وتمييز بين التحضر والتشدد.
باتت الأسر الكادحة تتعامل مع المعاهد الأزهرية باعتبارها المنقذ من المصروفات الباهظة التي تفرضها المدارس الحكومية، وحال استمرت الاستقلالية المالية للمؤسسة الدينية مع تطبيق منظومة تعليمية قديمة، فذلك قد يمثل عبئا مضاعفا على الحكومة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق