كيوبوست
قد تقود السخرية لأن تكتسب الأشياء مسمياتها. هذا ما حدث مع رواد المدرسة الانطباعية في الرسم، التي ظهرت في ستينيات القرن التاسع عشر؛ حيث أُطلق عليهم “الانطباعيون”، وهو اللقب الذي منحهم إياه الصحفي لويس ليروي، عندما كتب مقالاً ساخراً في مجلة “لو شاريفاري”، عام 1874، حول رسوماتهم، وأطلق اللقب مستنداً في ذلك إلى لوحة الرسام الفرنسي كلود مونيه “الانطباع: شروق الشمس” (1872).
الاسم الساخر وجد طريقه لرواد المدرسة الانطباعية، الذين تبنوه بالفعل، معتبرين أنه يصف فكرتهم المتمثلة في نقل “الانطباعات” البصرية.
خروج عن الكلاسيكية
لم يكن مونيه وزملاؤه؛ منهم: بيير أوغست رينوار، وكاميل بيسارو، وغيرهما، راضين عن حياتهم المهنية كرسامين، قبل أن يلجأوا إلى الانطباعية؛ فقد كانوا مضطرين، خلال مرحلة الدراسة، إلى رسم موضوعات تاريخية أو أسطورية بأسلوب قصصي.. هجروها في ما بعد واهتموا برسم المشاهد الطبيعية والحياتية، كما رفضوا المثالية التقليدية للمدرسة الكلاسيكية.
لذلك ابتكر مونيه الرسم الانطباعي، منقلباً بذلك على الكلاسيكية، ونفَّذ وزملاؤه لوحاتهم في الهواء الطلق، ملتقطين التأثيرات اللحظية للضوء على المشهد، بدلاً من تصويره كما هو في سياق مكاني مغلق.
ومع أن كلود مونيه يعتبر أول رواد المدرسة الانطباعية؛ إلا أن الرسام الفرنسي إدوارد مانيه، كان من الذين أضافوا بطريقتهم الخاصة جمالية جديدة على الرسم؛ حيث خرج من مسألة “أهمية الموضوع” التقليدي، وركز على معالجة الفنان للون والملمس. بينما سبق مونيه فنانون بالرسم في الأماكن المفتوحة كأوجين بودان ويوهان جونغكيند.
التكنيك: تأثير الضوء والزمن
بعيداً عن المراسم والأماكن المغلقة، اختار الانطباعيون الهواء الطلق لتنفيذ لوحاتهم؛ فرسموا المناظر الطبيعية والمشاهد كما ظهرت لهم في الضوء الطبيعي في وقتٍ محدد، معتمدين على ألوان أفتح وأكثر إشراقاً، بدلاً من الألوان الصامتة (الباهتة).
كان عامل الضوء المقترن بالزمن أساسياً في لوحاتهم؛ فقد اهتموا بتوثيق انعكاسه على الأجسام، محاولين إعادة إنتاج التأثيرات المتعددة لأشعة الشمس المتحركة والظل والضوء المنعكس على المشهد خلال فترة زمنية محددة؛ في محاولة لإعادة إنتاج الانطباعات المرئية الفورية.
اقرأ أيضاً: الرقص التاهيتي.. كيف يؤثر الاستعمار على ثقافة المكان؟
ولرسم الظلال، استخدموا ألواناً تكميلية، بدلاً من الأسود والرمادي باعتبارهما لونَين غير دقيقَين. والألوان التكميلية هي لون أساسي يقابله لون ثانوي على عجلة الألوان؛ مثل الأصفر كلون أساسي يقابله البنفسجي كلون ثانوي.
كما استحدث الانطباعيون تقنية “broken-hued“، ويتم خلالها رسم اللون على قماش باستخدام ضربات سريعة وقصيرة بالفرشاة؛ بحيث لا تتشكل طبقة طلاء واسعة، بل متقطعة تسمح برؤية ما وراء الضربة؛ ما يعطي تأثيراً بصرياً يوحي بالضوء الساقط على الأجسام في اللوحة.
المعرض الأول والنهاية
في خطوةٍ اعتبرت جريئة؛ لأن المدرسة الكلاسيكة في الرسم كانت مهيمنة، ولأن الدولة الفرنسية كانت ترعى معرضاً رسمياً واحداً للرسامين حينها، قام مونيه وزملاؤه بتنظيم معرضهم المشترك الأول في باريس، متجاوزين المعرض الرسمي؛ فقد استأجروا استوديو لعرض لوحاتهم خلال شهر مايو عام 1874، وأطلقوا على أنفسهم اسم “الجمعية المجهولة للرسامين والنحاتين وصانعي الطباعة”.
عقب انتهاء المعرض، تعرَّضتِ المجموعة إلى السخرية من قِبل النقاد؛ فقد اعتُبرت لوحاتهم انطباعات للوحات غير مكتملة أو انطباعات وأفكار سريعة للوحات ستنفذ لاحقاً، بينما استفادوا من السخرية التي تعرضوا إليها بتسمية مدرستهم “الانطباعية”، الاسم الذي تبنوه في ما بعد بمحض إرادتهم. تَلَت معرضهم الأول سبعة معارض أقاموها؛ كان آخرها عام 1886.
اقرأ أيضاً: الفنون الغنائية الشعبية للنساء.. من هدهدة الأطفال إلى إحياء الأعراس
لم تدم الحركة الثورية التي أقدم عليها الانطباعيون طويلاً؛ فبحلول منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر، بدأت مجموعتهم في التلاشي. جاء ذلك نتيجة لانحياز كل رسام منهم لمبادئه الجمالية. وعلى الرغم من أن عمر مجموعتهم كان قصيراً؛ فإنهم كانوا سبباً في نشوء حركة “ما بعد الانطباعية” نهاية القرن التاسع عشر، التي تبناها الرسامون: بول سيزان، وبول غوغان، وفينسنت فان جوخ.. وغيرهم، إلى جانب دورهم في تحرير الرسم من التقنيات التقليدية، والتركيز على الموضوع.
اليوم استحدث الانطباعيون تقنيات جديدة؛ لتصوير المناظر الطبيعية والأشجار والمنازل، كما اشتملت رسوماتهم على مشاهد الشوارع الحضرية ومحطات السكك الحديدية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق