كتب : كه يلان محمد
يُعد السردُ الروائي آلية لرصدِ مفاعيل المكان في تشكيل الكينونة والمصير، وهو ينطلقُ من الاستغوار في هموم المهمش والمنسي، متوخياً من ذلك ترميم الصورة بأبعادها الكلية في ذهن القارئ، ما يعني أنَّ السرد يكونُ عاملاً لمقاومة عاديات الزمن المتعاقب، بما في أحشائه من الأحداث التي قد تبدو جديدة في ظاهرها، لكن من حيث الأثر الذي يعبرُ عنها، ليست تلك الوقائع والأحداث إلا عوداً أبدياً،
وقد تختلفُ الحاضنة المكانية للحدث حسب المراحل التاريخية، لكن ما يترتبُ عليه متمثلاً في مصير الفرد لا يتبدل، عدا ذلك فإنَّ ما يهم خطاب الرواية هو فتحُ الكوة في جدار السرديات المهيمنة مثلما تشتغل الكاتبة اللبنانية جمانة حداد على هذا المسلك في روايتها الأولى «بنت الخياطة»، إذ تتبع مسار أربعة أجيال منتمية إلى جذور جغرافية واحدة.
وما يجمع بين شخصيات الرواية هو بنية الشقاء، والارتحال إلى أمكنة متعددة. ولا ينتهي دور المكان في هذا العمل الروائي، بوصفه خلفية أو مسرحاً للأحداث، وحركة الشخصيات، بل يعبّر عن التشكيلة الحضارية وما يعنيه ذلك من إمكانية الانفتاح والانغلاق.
تتفتحُ الروايةُ بصوت الراوي العليم، حيثُ ينقلُ ما يقولهُ المطران لـ»سيرون» مطالباً إياها بترديد كلماته، إذ توحي العبارات الواردة في هذا السياق بإجراء مراسم الزواج، وما يلبث أن ينصرف الراوي لاستبطان دواخل شخصية سيرون وتداعي ذكرياتها، عندما تناهى إليها كلام المطران بإيقاع قد حملها إلى عنتاب، فهناك كانت تحب الإصغاء إلى أنغام إدلاء الدلو في البئر، إذ تتخيلُ صوراً يتخذها الوعاء النحاسي في طريقه نحو الأعماق. كأنَّ بالكاتبة أرادت إيجاد معادل موضوعي بحركة الصعود والهبوط لبنية مدورة تنتهي بها الرواية.
روافد
تضمُ الرواية قصص شخصياتٍ تتغلغل في جسد النص وتتسلسل المادة المروية على شكل حزمات سردية، محملة بعناصر يتحققُ بها التواصلُ بين أجزاء العمل، كما أنَّ الروا، في ما طالب العقيد التركي بانضمام مارين إلى محظيته في أضنة. وظلت «سيرون» برفقة أمها التي أنجبت من بشير كيزلار أغا طفلاً يُنتزعُ منها. تضاعفت آلام مارين، ولم تنتحرْ خوفاً من ترك «سيرون» وحيدةً لكن هذه الرغبة المدفونة تنتقل إلى الابنة، وتقدمُ على الانتحار لاحقاً.
روافد
تضمُ الرواية قصص شخصياتٍ تتغلغل في جسد النص وتتسلسل المادة المروية على شكل حزمات سردية، محملة بعناصر يتحققُ بها التواصلُ بين أجزاء العمل، كما أنَّ الروا، في ما طالب العقيد التركي بانضمام مارين إلى محظيته في أضنة. وظلت «سيرون» برفقة أمها التي أنجبت من بشير كيزلار أغا طفلاً يُنتزعُ منها. تضاعفت آلام مارين، ولم تنتحرْ خوفاً من ترك «سيرون» وحيدةً لكن هذه الرغبة المدفونة تنتقل إلى الابنة، وتقدمُ على الانتحار لاحقاً.
وما تؤدي محاولة الهروب من فيلا العقيد سوى إلى مقتل مارين، وبذلك يفترسُ الحزنُ «سيرون» التي تختبأُ بين شجيرات كثيفة مراقبةً التوحش العاري في سحق جسد الأم. عليه فإنَّ السيولة في القصص الفرعية وتوارد أسماء الأمكنة والتحولات في مسرح الأحداث من عنتاب إلى أضنة، مرورا بحلب، ولا تنتهي بالقدس ودير ياسين كل ذلك مؤشر إلى تشعب بنية النص بفصوله الأربعة، دعك مما يضمره الفصل الأول من البذور التي تؤسس للتواصل بين أطراف الرواية. هنا يمكن التلميح إلى القلادة التي تحتفظ بشعرات أبناء مارين وأصلان وألمظ.
إنَّ تراكم الكوارث الناجمة من الحرب والصراعات الدموية، مادةُ أساسية للأعمال الروائية، لكن ما تتميز به رواية «بنت الخياطة»، هو ملاحقة سردها لواقع الحرب في مراحل وأزمان مختلفة، فلكل جيلٍ نصيب من محنة الحرب فمارين فقدت والديها في مجزرة 1895، وتتعمقُ المأساةُ عندما تفجعُ بمقتل زوجها الإسكافي واثنين من أبنائها، وتصبحُ سيرون في عهدةِ والديها «غريغور وفارتوهي» بالتبني في حلب، ويتمُ النزوح من هناك إلى القدس، حيثُ يرحلُ غريغور إثر إصابته بداء السل، وتتبعه زوجتهُ محترقةً.
تفوقت حداد في تنظيم مادتها السردية إذ يزيدُ البرنامجُ السردي من منسوب التشويق ويمكنُ من كسر خط التصاعد الزمني، فتأتي قصة شيرين بعد انتهاء قصة «سيرون»، ومن ثمَّ يستأنف الراوي في استعادة قصة ميسان وتختتم الرواية بسرد حكاية جميلة
الحرب
إنَّ تراكم الكوارث الناجمة من الحرب والصراعات الدموية، مادةُ أساسية للأعمال الروائية، لكن ما تتميز به رواية «بنت الخياطة»، هو ملاحقة سردها لواقع الحرب في مراحل وأزمان مختلفة، فلكل جيلٍ نصيب من محنة الحرب فمارين فقدت والديها في مجزرة 1895، وتتعمقُ المأساةُ عندما تفجعُ بمقتل زوجها الإسكافي واثنين من أبنائها، وتصبحُ سيرون في عهدةِ والديها «غريغور وفارتوهي» بالتبني في حلب، ويتمُ النزوح من هناك إلى القدس، حيثُ يرحلُ غريغور إثر إصابته بداء السل، وتتبعه زوجتهُ محترقةً.
ولن يكونَّ الاختلاف في الديانة سبباً لإبادة الأقلية، ولتأجيج الصراعات في أضيق مساحةٍ فحسب، إنما ينسفُ الحبَ الناشئ في مرتع الموت، وهذا ما عاشته «سيرون» عندما تحرمُ من دفء عشيقها اليهودي آفي، ويقدرُ عليها مشاركة الحياة مع باسم بركات الذي يكبرُها سناً.
يُذكرُ أنَّ بنات مارين لا يتوارثن منها مهنة التطريز فقط، بل تكونُ الثغرة التي يخلفها غياب الحب، بمثابة الحبل السري بين الأجيال، إذ تتفاجأُ ميسانُ بتقلب شخصية لوقا وتلاشي الحب بينهما، كما تعوضُ شيرين حرمانها من الحب في الحياة الزوجية بتواصلها الجسدي المحموم مع عمر في بيروت، إذ يبدأُ القسمُ الثاني بتتبعِ علاقة الاثنين، ويأتي ذلك متزامناً مع الحراك اللبناني في 2005، وما يشدها إلى عمر أكثر هو تهوره الحسي ما يثيرُ رغبة شيرين الجسدية لحد التلفظ بمفردات ذكورية صريحة في منازلته، كما أن الاختلاف الديني زاد من حدة الإثارة بين الاثنين.
زدْ على ما سبقَ فإنَّ الهاراكيري العاطفية لا تخلو من وظيفة استبدالية، إذ عوضت شيرين بجولاتها العاطفية الساخنة عجزها عن الإقدام على الانتحار، على غرار جدتها «سيرون»، أو كما فعلت خالتها نجاة وهي تبوح بإقامة العلاقة الحميمية مع بنات جنسها، الأمر الذي يجلب لها مزيدا من كراهية الابنة جميلة، عندما تكتشف الأخيرة بأنَّ أمها تتواصل مع مس هادية. إذن تنضافُ ثيمة الانتحار إلى حيثيات النص الروائي، ويصبحُ الموضوع سؤالاً قائماً لدى شخصيات جمانة حداد وهي قد أشارت في كتابها «الجنس الثالث» إلى وجود القاتل الخفي الذي فتك بأرواح عدد من أفراد عائلتها. وبذلك يكونُ الانتحار مؤشراً لعلاقة تناصية بين بنت الخياطة والنصوص التي سبقتها في النشر.
مفصل آخر من الرواية يدور حول الحرب اللبنانية، وما خلفته من الدمار الروحي والمادي إذ تعاينُ شيرين مشاهد مفعمة بسيريالية في أجواء الحرب منها تعثرها بذراع مقطوعة مطوقة بساعة، لم يزل يتحرك رقاصها، هنا يمكنُ تأويل الكلام بالاستناد إلى دلالته الرمزية، بحيثُ تكمنُ في مفردة الساعة إشارة إلى زمن العنف، الذي يلتهم الأجيال وما يسوغ هذا الرأي هو عدُ شيرين لوقت بكاء خالتها نجاة على ساعة كاسيو، عندما زارتها في المصحة. إذ ينتظم البكاءُ والاكتئاب والعنف على خط زمني واحد.
الهجرة العكسية
تفوقت حداد في تنظيم مادتها السردية إذ يزيدُ البرنامجُ السردي من منسوب التشويق ويمكنُ من كسر خط التصاعد الزمني، فتأتي قصة شيرين بعد انتهاء قصة «سيرون»، ومن ثمَّ يستأنف الراوي في استعادة قصة ميسان وتختتم الرواية بسرد حكاية جميلة، أكثر من ذلك يفضل الراوي العودة في المقاطع اللاحقة لإقفال حلقة الحدث، الذي ظلَّ ملتبساً، الأمر الذي تجده في اعتراف ميسان بعلاقتها الجسدية مع صاحب المحل، الذي قُتل في الحرب، وهذا يحيل المتلقي إلى اللحظة التي يقع فيها نظر شيرين على أمها، وهي تتخلص من الجنين. وتنتهى الرواية بهجرة أسرة شيرين من حلب إلى عنتاب، أي رحلة عكسية في جغرافيا البؤس، وذلك بعدما تصبح سوريا ميداناً لحرب ضروس.
خلاصة القول عن هذا العمل، الذي يصنف ضمن روايات نهرية، أنَّ الكاتبة تمكنت من تغطية الحروب التي ألقت ظلها القاتل على الأقلية الأرمنية، ولولا همينة صوت الراوي كلي العلم واللغة التقريرية في بعض المقاطع، والخلط في استخدام الضمير وتجاهل تقنية الحذف، لكانت جمالية مبنى الرواية في مستوى محتويات متنها في «بنت الخياطة»، واللافت في نهاية الرواية هو كسر أفق توقع المتلقي، الذي يصعبُ عليه، بناء على معطيات نصية تصور موت جميلة في عملية انتحارية في اسطنبول. وأخيراً يكونُ القارئ أمام سؤال ما إذا كانت جمانة حداد قد وظفت سيرتها الذاتية لسبك روايتها الأولى، التي تتقاطع مع الجنس الثالث، وهكذا قتلت شهرزاد في خطوط عريضة؟ فهل ما ألفته مجرد تنويع في شكل الكتابة أو بداية مشروع الكتابة الروائية؟
٭ كاتب عراقي
كه يلان محمد
٭ كاتب عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق