داني رودريك
| الخميس 15 أكتوبر 2020قبل 50 عاما، نشر ميلتون فريدمان، مقالا في صحيفة "نيويورك تايمز"، أوضح فيه بالتفصيل ما أصبح يعرف بنظرية فريدمان: "تتلخص المسؤولية الاجتماعية التي تتحملها الشركات في زيادة أرباحها". كانت فكرة طورها في كتابه الصادر عام 1962 بعنوان "الرأسمالية والحرية"، حيث زعم أن المسؤولية الوحيدة التي تدين بها أي شركة للمجتمع تتمثل في ملاحقة هدف تعظيم الأرباح في إطار القواعد القانونية التي تحكم اللعبة.
تفرض نظرية فريدمان بصمتها على عصرنا. فقد أضفى الشرعية على الرأسمالية الحرة التي أنتجت انعدام الأمان الاقتصادي الذي عمل على توسيع فجوات التفاوت، وتعميق الانقسامات الإقليمية، وزيادة حدة تغير المناخ وغير ذلك من المشكلات البيئية. وفي النهاية، أدى أيضا إلى ردة فعل عنيفة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. واستجابت شركات عديدة كبرى من خلال الانهماك في مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات أو التشدق به.
ينعكس هذا المفهوم في ذكرى سنوية أخرى هذا العام. يستهدف الميثاق العالمي للأمم المتحدة، الذي أطـلق قبل 20 عاما، نظرية فريدمان بشكل مباشر من خلال محاولة إقناع الشركات بالاضطلاع بدور الوكلاء للمصلحة الاجتماعية الأوسع. ووقع أكثر من 11 ألف شركة تزاول أعمالها في 156 دولة على الميثاق، وبذلت التعهدات في مجالات حقوق الإنسان، ومعايير العمل والمعايير البيئية، ومكافحة الفساد.
الواقع: إن جون روجي، الباحث الذي لعب دورا رئيسا في تطوير وإدارة الميثاق العالمي، يصفه ومبادرات مماثلة بأنها جهود وطنية تساعد الشركات على تطوير هويات اجتماعية. ومن خلال الترويج لمعايير سلوكية، تعمل مثل هذه المبادرات على تمكين الشركات من التنظيم الذاتي. وعلى هذا، فإن الشركات - كما يزعم روجي - تشغل الفراغ الناجم عن انحدار الأشكال التقليدية من التنظيم من قـبـل الحكومات الوطنية والمنظمات العامة الدولية، ما يجعلها أداة مهمة لإعادة التوازن الذي نحتاج إليه بين السوق والمجتمع.
عكف أساتذة الأعمال الرواد، من أمثال ريبيكا هندرسون من جامعة هارفارد، وزينب تون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، على الدفع بحجج مفادها أن اهتمام الشركات بالبيئة أو العاملين لديها يصب في المصلحة طويلة الأجل لقادة الشركات. قبل عام واحد، انضمت المائدة المستديرة للأعمال في الولايات المتحدة إلى الركب ببيان منقح لغرض الشركات، معلنة التزامها بتسليم القيمة ليس فقط لحاملي الأسهم، بل أيضا إلى جميع أصحاب المصلحة بما في ذلك الموظفون، والعملاء، والموردون، والمجتمعات، وقع على البيان ما يقرب من 200 رئيس تنفيذي لشركات كبرى برأسمال سوقي إجمالي تجاوز 13 تريليون دولار.
لكن رغم الدعم الهائل من قـبـل القطاع الخاص للمسؤولية الاجتماعية التي يجب أن تتحملها الشركات، فإن فعالية الاعتماد على المصلحة الذاتية المستنيرة للشركات تظل غير واضحة. ويقدم لنا تحليل حديث أجراه لوسيان بيبتشوك، وروبرتو تالاريتا، من كلية الحقوق في جامعة هارفارد، وجهة نظر إضافية واقعية.
خلص بيبتشوك وتالاريتا إلى أن المبادرات كتلك التي اتخذتها المائدة المستديرة للأعمال تميل إلى أن تكون "تحركات خطابية للعلاقات العامة إلى حد كبير": فهي لا تنعكس في ممارسات حوكمة الشركات الفعلية ولا تتعامل مع المقايضات الصعبة التي ستكون لازمة إذا وضـعـت مصالح أصحاب المصلحة في الحسبان. علاوة على ذلك، قد تأتي مثل هذه المبادرات بنتائج عكسية من خلال "رفع مستوى الآمال الوهمية حول التأثيرات الإيجابية لمصلحة أصحاب المصلحة". لذا، تظل السياسات الحكومية التي تنظم كيفية تعامل الشركات مع العاملين، والمجتمعات المحلية، والبيئة، تشكل أهمية أساسية.
الواقع: إن أنصار رأسمالية أصحاب المصلحة لا يستخفون بالضرورة بأهمية الدور الذي تضطلع به الحكومات. قد يزعم بعض المراقبين، مثل هندرسون، أن الشركات المسؤولة اجتماعيا تجعل من السهل على الحكومات القيام بوظيفتها على النحو اللائق. بعبارة أخرى، يشكل كل من التنظيم الحكومي وتغليب مصالح أصحاب المصلحة في الشركات عاملا مكملا للآخر وليس بديلا له، كما يعتقد بيبتشوك وتالاريتا.
لكن ماذا لو كانت الشركات قوية إلى الحد الذي يسمح لها بتصميم الضوابط التنظيمية بذاتها؟ أخيرا، كتب مارتن وولف، في صحيفة فاينانشيال تايمز: "كنت أتصور أن ميلتون فريدمان على حق. لكني غيرت رأيي". أوضح وولف أن الخلل الذي يعيب مذهب فريدمان هو أن قواعد اللعبة التي بموجبها تسعى الشركات إلى تحقيق الأرباح لا يجري تشكيلها بطريقة ديمقراطية، بل بفعل "التأثير المهيمن" للمال. وتفسد القواعد بفعل إقدام الشركات على تخريب العملية السياسية من خلال المساهمات المالية.
لكن إخراج المال من السياسة، كما يوصي وولف، لن يحل المشكلة بالكامل. والسبب هو أن ما يسمى الأسر المعرفي لا يقل أهمية عن الأسر المالي. يتطلب التنظيم وصنع السياسات معرفة تفصيلية بالظروف التي تواجه الشركات، والإمكانات المتاحة، وكيف قد تتطور هذه الإمكانات. في التنظيم البيئي، أو المالي، أو سلامة المستهلك، أو مكافحة الاحتكار، أو السياسة التجارية، تنازل المسؤولون الحكوميون عن السيطرة لمصلحة الشركات لأن الشركات هي التي تحدد كيفية إنتاج المعرفة ونشرها. وهذا يمنحها القدرة على وضع تصور لكيفية تحديد المشكلات، وأي الحلول تستحق الدراسة، وكيف قد تبدو حدود التكنولوجيا.
في مثل هذه الظروف، يصعب على الحكومات أن تضع قواعد أساسية مرغوبة اجتماعيا دون مدخلات ضخمة، وبالتالي النفوذ من قـبـل الشركات. وهذا يستدعي نمطا مختلفا من الحوكمة التنظيمية، الذي بموجبه يجري تحديد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العريضة من قـبـل السلطات العامة، لكن يتم صقلها وتنقيحها من حين لآخر، في إطار عملية مستمرة من التعاون المتكرر مع الشركات.
ورغم صعوبة إيجاد التوازن الصحيح بين الخاص والعام، فإن الأمر لا يخلو من أمثلة ناجحة لمثل هذا التعاون في تعزيز التكنولوجيا، وسلامة الأغذية، وتنظيم جودة المياه، لكن في نهاية المطاف يتلخص الحل الحقيقي الوحيد لهذه المعضلة في جعل الأعمال ذاتها أكثر مرونة. وهذا يعني إعطاء الموظفين والمجتمعات المحلية صوتا مباشرا في الطريقة التي تدار بها الشركات. ومن الواضح أن الشركات من غير الممكن أن تصبح شريكا جديرا بالثقة لتحقيق المصلحة الاجتماعية إلا عندما تتحدث بأصوات أولئك الذين تعمل على تشكيل حياتهم.
بروجيكت سنديكيت، 2020.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق