الفارسي بابك الخرمي يشن الحرب على الدولة العباسية
حركة بابك الخرّمي أو "الخرمية" هي إحدى الحركات التي قامت ضد الدولة العباسية، وتحديداً في زمن المأمون، واستمرت مدة 20 عاماً، وظهرت من إيران، وكان لها دور سلبي في إضعاف الدولة، وفتح الباب لتدخل الروم بسبب التعاون الذي قام بين بابك الخرمي والإمبراطور الروماني للقضاء على الدولة العباسية.
وبابك هو ابن بائع دهن من أهل المدائن ،سكن أذربيجان ،وعشق أم بابك ، وفضح معها ثم تزوجها،ثم قتل وبابك ما يزال صغيرا، ونشأ الابن في هذه الأجواء ،وعمل راعياً لمساعدة أمه، وقد أثرت هذه النشأة على نفسية بابك وجعلته يحقد على مجتمعه.
وبعد ذلك عمل خادماً عند أحد زعماء الخرمية () "جاويذان بن سهل أو سهرك" فأخذ عنه بعض الأفكار التي تقوم على الاعتقاد بالتناسخ، والاعتقاد بوجود إلهين أحدهما للنور والآخر للظلمة ([2]) ، والقول بإباحة النساء، وغيرها من عقائد وأفكار الخرمية .
ويقول الإمام عبد القاهر البغدادي في بيان ما يؤمن به البابكية: "والبابكية ينسبون أصل دينهم إلى أمير كان لهم في الجاهلية اسمه شروين، ويزعمون أن أباه كان من الزنج، ,وأمه (من) بعض بنات ملوك الفرس، ويزعمون أن شروين كان أفضل من محمد، ومن سائر الأنبياء، وقد بنوا في جبلهم مساجد للمسلمين، يؤذن فيها المسلمون، وهم يعلِّمون أولادهم القرآن، لكنهم لا يصلون في السر، ولا يصومون في شهر رمضان، ولا يرون جهاد الكفرة".
ويضيف: "وللبابكية في جبلهم ليلة عيد لهم، ويجتمعون فيها على الخمر والزمر، وتختلط فيها رجالهم ونساؤهم، فإذا أطفئت سُرُجهم ونيرانهم افتضى فيها الرجال والنساء.."
وحول تلك الليلة يقول الإمام الغزالي: ".. ويطفئون سرجهم وشموعهم، ثم يتناهبون النساء، فيثب كل رجل إلى امرأة فيظفر بها، ويزعمون أن من استولى على امرأة استحلها بالاصطياد، فإن الصيد من أطيب المباحات..".
وكانت زوجة جاويذان تعشق بابك ،فلما توفي زوجها موهت على أتباعه بأن روحه استقرت في بابك ، وأن زوجها ترك وصية يقول فيها عنه:" سيبلغ بنفسه وبكم أمرا لم يبلغه أحد ،ولا يبلغه بعده أحد ،وإنه يملك الأرض ويرد المزدكية ويعز ذليلكم ويرفع وضيعكم".
فصدقوها،ورضوا به زعيما .وبعد أن وجد بابك شيئاً من القوة والأتباع، بدأ بثورته سنة 201هـ في جبل البدين في أذربيجان، وقد ظهر في مدينة بفارس اسمها "خرّمة" بالقرب من أردبيل. مستغلاً المشكلات التي سبقت عهد المأمون، وعاصرت أعوامه الأولى، وعلى رأسها صراع المأمون وأخيه الأمين على الخلافة.
أخذ بابك يستولي على بعض القلاع ويحرز بعض النصر، والمأمون يرسل الجيوش لقتاله، ففي سنة 204هـ حدث قتال بين يحيى بن معاذ والي الجزيرة وبين بابك، ولم يظفر أحدهما بالآخر، ومات يحيى في العام التالي، واستمر قتال بابك من قبل والي أذربيجان وأرمينيا عيسى بن محمد بن أبي خالد الذي بعث حملة إلى بابك استمر تجهزها سنة كاملة لكنه هزم.
وولى المأمون على أذربيجان وأرمينيا زريق بن علي فندب أحمد بن الجنيد لقتال الخرمي، وذلك سنة 209هـ، فتمكن من أسر ابن الجنيد.
ثم ولى المأمون إبراهيم بن الفضل التجيبي على أذربيجانن فكان القتال مع بابك ضعيفاً، وفي سنة 212هـ، أرسل المأمون محمد بن حميد الطوسي، فتمكن بابك من قتله سنة 214، وكان لقتله أكبر الأثر في نفس المأمون، بل ونفوس المسلمين جميعاً، وقد رثاه أبو تمام في قصيدة مطلعها:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر
ومما جاء فيها:
توفيت الآمال بعد محمـدٍ وأصبح في شغل عن السفر السفر
فتى مات بين الطعن والضرب ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر
وظل أمر بابك يقوى إلى أن أرسل له المأمون إسحاق بن إبراهيم سنة 218هـ، وهو العام الذي توفي فيه المأمون، فأحرز إسحاق نصراً إلاّ أن أمر الخرمية بقي قويّاً، فجاء المعتصم ليتابع ما بدأه المأمون ، وقد كان اعتنق عدد من سكان الجبال مذهب الخرمية في تلك السنة، وأصبحت همذان وأصبهان تابعتين لبابك.
بدأ المعتصم عهده بإرسال جيش قوي بإمرة إسحاق بن إبراهيم إلى الخرمية، فانتصر عليهم، ثم سيّر إليهم جيشاً آخر سنة 220 ، بإمرة أبي سعيد محمد بن يوسف فأحرز نصراً آخر، وجهز كذلك جيشاً بإمرة القائد التركي حيدر بن كاوس الأشروسني، المعروف باسم (الإفشين)، وقد تعرّف هذا القائد قبل قتال الخرّمية على مناطقهم وطريقتهم في القتال التي غالبا ما كانت ليلاً وعلى شكل غارات سريعة، ونصب كمائن في الفجاج بين المرتفعات.
وبقي الإفشين سنتين كاملتين في قتال بابك، وتمكن من دخول مدينة "البذ" مقر بابك وحصنه المنيع في التاسع من رمضان سنة 222هـ.
وكان أتباع بابك عندما تحلّ بهم الهزيمة يلجؤون إلى بلاد الروم فيقيمون في المرتفعات، ويضمهم الروم إلى جنودهم الذين يرسلونهم لقتال المسلمين. وعندما حوصر بابك في "البذ" أرسل إلى ملك الروم تيوفيل بن ميخائيل يحثه على مهاجمة المسلمين، ويشجعه بأن الخليفة لم يبق لديه من الجند ما يكفي لحراسته ،إذ بعث بكل ما لديه إلى القتال في أذربيجان ضد الخرمية، وقد دفع هذا تيوفيل إلى الاعتداء على المسلمين.
وقبل ذلك كان بابك يراسل امبراطور الروم ميخائيل الثاني (والد تيوفيل) ويتحالف معه ضد المسلمين، ظناً أن ذلك سيضعف الدولة ويفتح الجبهات عليها.
كان من نتائج حلف بابك وإمبراطور الروم، أن يسير تيوفيل على رأس مائة ألف من جنده، وسارت معه الخرّمية الذين التجأوا إلى بلاده، واتجه إلى حصن "زبطرة" فخرّب البلد، وسبى النساء، وقتل الذراري، وأخذ الأسرى، ومثّل بكل من وقع في يده. وفي ذلك الحصن أطلقت إحدى المسلمات صرختها الشهيرة "وا معتصاه".
ولما انتهى إمبراطور الروم ومن معه من الخرمية من "زبطرة" سار إلى ملاطية، فأغار على أهلها، وعلى حصون المسلمين. وهكذا هو دائماً نهج الفرق المنحرفة يتحالفون مع أعداء الإسلام، ويوجهون سهامهم ضد المسلمين.
وعودة إلى بابك، وعلى الرغم من فراره من حصان "البذ" إلاّ أن الإفشين تمكن من إلقاء القبض عليه، وعلى أخيه عبد الله، وبعض أسرته، فحمله إلى سامراء مع بعض أتباعه، وكانت حينها مقراً للمعتصم، وقتل بابك فيها سنة 223هـ ، ومن معه من أتباعه، وانتهت فتنة بابك الخرمي بعد أن أقضت مضاجع المسلمين أكثر من عشرين سنة، مخلفة حسب بعض المصادر 200 ألف قتيل من المسلمين، وأكثر من 100 ألف من الخرّمية، إضافة إلى إضعاف الدولة وشغلها عن مواصلة الفتوحات وقتال الروم.
وقد أشار المسعودي في كتابه مروج الذهب 3/473: إلى خطر هذه الحركة فقال: "وحمل رأس بابك إلى خراسان يطاف بها كل مدينة من مدنها وكورها لما كان في نفوس الناس من استفحال أمره وعظم شأنه وكثرة جنوده وإشرافه على إزالة ملك وقلب ملة وتبديلها".
أما الإفشين، فبعد انتصاره على بابك كبر شأنه عند المعتصم الذي ألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم، وعشرة آلاف ألف يفرقها في عسكره، وعقد له على السند، إلاّ أن ذلك الود لم يدم طويلاً، إذ أن الإفشين لقي مصير بابك بعد حوالي ثلاث سنوات، وعلى يد المعتصم أيضاً.
وقد اختلف المؤرخون في السبب الذي جعل المعتصم يقتل الإفشين ويصلبه، فالرأي الأول ينفرد بالقول أن الإفشين تخاذل عن قتال بابك وكان يضمر موافقته على ضلالاته، وهذا ما جعل وطأة بابك وأنصاره تشتد على المسلمين، وهو ما جعل المعتصم يصلبه بإزاء بابك، وهذا ما ذهب إليه البغدادي وأبو حامد الغزالي، لكن عموم المؤرخين على غير ذلك، ويقولون أن الإفشين تفانى في قتال بابك وأنصاره، وأن قتله كان بعد قتل بابك بثلاث سنين، وتعددت تفسيراتهم لذلك.
ـ فمنهم من قال أن المعتصم غضب على الإفشين في سنة 225هـ بسبب تصرفات مالية، وقد ذكر ذلك ابن الأثير، فقد أمر المعتصم بحبسه، ومات في الحبس، ثم أخرج ميتاً فصلب في باب العامة.
ـ ومنهم من ذهب إلى أن الإفشين انقلب على المعتصم وعلى دولة الإسلام، وأخذ يدبر المؤامرات، ويدعوا سراً للانقضاض على الخلافة، وقال هذا الفريق أن المازيار صاحب جبال طبرستان([3]) الذي أعلن العصيان وخلع المعتصم، أقَرّ بأن خروجه وعصيانه كان بتحريض من الإفشين، وأنهما على مذهب الثنوية والمجوس كما ذكر ذلك المسعودي في مروج الذهب.
ـ ويذكر بعضهم ومنهم التبريزي شارح ديوان أبي تمام أن الإفشين لم يكن كافراً ولا منافقاً، غير أن الحساد أفسدوا بينه وبين المعتصم،وصوّروه للخليفة بمظهر المعادي له، وقالوا للإفشين أن المعتصم عازم على القبض عليك.
للاستزادة:
1ـ الشعوبية نشأتها وتطورها ـ د.نزار الحديثي وسعيد الحديثي ص 47
2ـ التاريخ الإسلامي (الدولة العباسية) ج 1 ـ محمود شاكر ص 206 ـ 222
3ـ الوجيز في تاريخ الإسلام والمسلمين ـ د. أمير عبد العزيز ص 571 ـ 576
4ـ الفرق بين الفرق ـ الإمام عبد القاهر البغدادي ص 266
5ـ فضائح الباطنية ـ الإمام أبو حامد الغزالي ص 14
6ـ القرامطة ـ الإمام عبد الرحمن بن الجوزي ص 47
7ـ حركات فارسية مدمرة ضد الإسلام والمسلمين ـ د. أحمد شلبي ص 109
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق