استرشاداً بالمغزى الاجتماعي والثقافي وفعل المقاومة السياسي في قصة الحب الرومانية الشهيرة المعنونة بـ «كاريتاس رومانا»، والتي ألهمت عدداً من الفنانين، يتخذ القائمون على مهرجان تسالونيكي السينمائي الدولي في دورته التاسعة والخمسين هذه الحكاية معياراً لاختيار الأفلام المتنافسة في المسابقة الدولية. ففي القصة، تقوم الابنة بيرو، سراً، بإطعام والدها الشيخ العجوز سيمون، المحكوم عليه بالموت، بإرضاعه من ثديها فتحفظ له حياته وتُعيد إليه قوته. هنا، تتجاوز بيرو نفسها، وجسدها، ودورها الاجتماعي كأم وابنة.
انطلاقاً من تلك المأثرة إذاً، ومن ذلك الفعل النبيل الجريء، وهذا التحول غير العادي في الأدوار، تأتي الأرضية المشتركة التي تجمع أفلام قسم المنافسة الدولية على تنوع موضوعاتها، فقصة بيرو «لا تعكس فقط التضامن الأسري، بل أيضاً العمل السياسي الشجاع الذي يُرسخ رموزاً ثقافية وعلاقات اجتماعية جديدة». هذا ما يُؤكده أورستيس أندرادياكيس المدير الفني للمهرجان اليوناني مُضيفًا: «يمكننا اليوم إعادة النظر وتأمل هذه القصة في ضوء النظريات الحديثة حول دور المرأة، وتراجع النظام الأبوي، وتزايد الأدوار الجندرية، وتفعيل الدور الاجتماعي للجنوسة«.
إضافة إلى ما سبق، فإن مهرجان تسالونيكي الدولي (افتتح دورته مساء أمس الخميس بفيلم «حرب باردة» للمخرج البولندي بافل بافليكوفسكي)، والممتد حتى 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، يهتم بالمخرجين الحداثيين الواعدين من كل أنحاء العالم، محاولاً اكتشاف أجمل الأصوات الجديدة للسينما المستقلة العالمية المعاصرة، من هنا نراه يقدم الأفلام الأولى أو الثانية لمخرجيها الجسورين، فتضم المسابقة الدولية هذا العام 15 عملاً سينمائياً، منها ثلاثة أفلام يونانية.
نظرة على البلقان
على مدار 25 سنة، ظل قسم «نظرة على سينما البلقان» يعرض أفضل إنتاجات منطقة البلقان، من إبداعات المخرجين المعروفين، إضافة إلى صُناع الأفلام الجدد الواعدين، وهذا العام يُواصل دوره بتقديم مجموعة متنوعة من الأفلام المثيرة بقضاياها الاجتماعية والسياسية ضمن البرنامج الأساسي الذي يتكون من 15 فيلماً من الإنتاج الحديث ما بين روائي وقصير، إضافة إلى عرض ثمانية أفلام مُوقعة بأسماء أسلاف السينما الرومانية الجديدة تحت عنوان «قبل تكسير الأمواج».
أما على صعيد دعم الإنتاج السينمائي في مهرجان تسالونيكي فهناك 15 مشروعاً في ملتقى الإنتاج المشترك العابر للحدود، والذي يقام للسنة الرابعة عشرة؛ إضافة إلى دعم 12 فيلماً قيد التطوير في جدول أعمال برنامج «أغورا» بين 3 _ 10 تشرين الثاني، من دون أن نغفل تظاهرة السوق السينمائية لأغورا التي تعرض 220 فيلماً من مختلف دول العالم.
قضايا وسينما يونانية
اللافت أن القضايا والسينما اليونانية حاضرة بقوة في هذه الدورة، إذ يعرض منها 20 فيلماً روائيا أغلبها من أحدث إنتاجات العام، إضافة إلى 34 فيلماً قصيراً يرجع بعضها إلى أواخر الستينات حتى اليوم. كما أن هناك حلقة نقاش حول الغرائبية في السينما اليونانية، يٌشارك فيها عدد من نجومها وصناعها للحديث عن ماضيهم الصعب، ولكن أيضاً المبدع، عن الأفلام، والأصدقاء الراحلين، عن كل شيء يعيش في الذاكرة الجمعية؛ ففي رأيهم أن كل ما هو جزء من قصة قد تبدو فردية أو شخصية قد حان الوقت لأن يُحكى عنه، ربما ليُهلم الآخرين من أبناء هذا الشعب وليتعلموا منه خصوصاً في ظل أزمتهم التي لم تنته بعد.
على صعيد آخر، تُعرض أعمال يونانية سينمائية في إطار تكريم مبدعيها فمثلاً، ولمناسبة تكريم المهرجان الفنان اليوناني الموهوب جوردان أنانياديس، المولود في سالونيك والحائز الكثير من الجوائز، سيُقام له ماستركلاس، ليُشارك الجمهور الحديث حول أسرار صناعة أفلام التحريك وتجربته معها، إلى جانب عرض عدد من أعماله.
تبادل الأدوار
من الواضح أن أفلاماً معروضة تطل على واقع هذا البلد الذي خاض حرباً طاحنة مع الانهيار الاقتصادي على مدار سبع سنوات عجاف كادت تعصف به، وتقتلعه من عضوية الاتحاد الأوروبي، لكنه لا يزال يحتمي بالتاريخ والفنون التي خرج أهمها من أرضه، فاليونان القديمة كانت أول مهبط للحضارة المدنية الأوروبية، ومنها انطلق الكثير من أشكال الفنون - على الأخص الشعر والمسرح - واللغة، والفلسفة، والسياسة، والرياضة التي انتشرت في المجتمع الغربي. لذلك، عندما يُقام فيها مهرجان للسينما ينتهز المنظمون الفرصة لتحقيق أمرين؛ أولهما: ألا يفصلوا الفن السابع عن المسرح، فيُعيدون تطبيق مفهومهم عن تبادل الأدوار، لذلك يُتيحون الفرصة - في الكثير من أماكن عروض أفلام هذه الدورة للمهرجان - كي تلتقي السينما بالمسرح، والعكس صحيح، عبر عروض مسرحية غير عادية وغير متوقعة يؤديها ممثلو المسرح الوطني في شمال اليونان.
الأمر الثاني؛ يتمثل في إعادة تسليط الضوء على واحدة من أهم قضاياهم التراثية والأثرية، إذ يُلقي البروفيسور ديمتريس بانترماليس مدير متحف الأكروبوليس مقدمة توضيحية مختصرة عن القيمة الثقافية والفنية لمعبد باراثينوس الأثيني بجميع منحوتاته الأثرية، وأهمية استعادته من إنكلترا إلى النصب التذكاري في أثينا. والمعروف أن معبد بارثينوس تم نحت تماثيله المتنوعة بالأكروبوليس في الفترة بين 447 - 432 قبل الميلاد لتكريم إلهة أثينا ولإحياء ذكرى النصر اليوناني الأخير على الفرس. لكن إنكلترا كما فعلت مع عدد من أهم الآثار المصرية وأجملها استحوذت على المعبد، وهناك الآن حملة دولية تطالب باستعادة المعبد.
تكاتف التعليم والسينما
إذا كان صاحب البصيرة المصري الدكتور طه حسين نادى بأحقية الإنسان في التعلم في أربعينات القرن العشرين، مؤكداً أنه للإنسان «كالماء والهواء»، فإن الزعيم الجنوب أفريقي نيسلون مانديلا قال: «التعليم هو أحد الأسلحة التي يمكن من خلالها تغيير العالم». وانطلاقاً من إيمان راسخ بأن السينما يُمكنها أن تعلمنا الكثير، بينما يستطيع التعليم أن يضيء خبراتنا، فإن تضافر الاثنين سوياً يمكنهما صُنع عالم أفضل، وفي هذا الإطار سيتم عرض خمسة أفلام - فرنسية وكندية وبرازيلية - تعرض للمرة الأولى في اليونان تنهض على قصص سينمائية مشوقة تدور أحداثها في أروقة الجامعات عن الحب والسياسة في حياة الشباب والمراهقين كجزء من مجانية «دروس الحياة»، وهو البرنامج الذي يتم إنجازه ضمن مشروع «تنمية الموارد البشرية والتعليم مدى الحياة» الذي يُشارك في تمويله الاتحاد الأوروبي بالتضامن مع الصناديق الوطنية في اليونان، وهي مشروعات ذات تمويل مشترك تسعى إلى تحسين التعليم وحل مشكلة البطالة في هذا البلد، عبر تنمية مهارات الموارد البشرية وتعزيزها، والنشاطات ضد البطالة، وتعزيز التماسك الاجتماعي، ومساعدة الفئات الاجتماعية الضعيفة في الاندماج الاجتماعي، وتحسين نوعية التعليم، والتوعية في شأن التعليم البيئي، وربط ذلك كله بسوق العمل. وستكون جميع دور العرض السينمائي التي تُقدم تلك الأفلام متاحة ومفتوحة أمام ذوي القدرات الخاصة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق