حول الثقافة المدنية

بقلم : مبارك سالمين
إن الوعي بالمفاهيم مسألة في غاية الأهمية لإزالة الخلاف بين المتحاورين، أو على الأقل لتضييق دائرته، ولا يخفى على أحد لتحديد المعاني والألفاظ من فائدة، فكثيراً ما يثور الخلاف بيننا في مسألة ما ويشتد الجدل، ومرد ذلك يكمن في عدم تحديد الألفاظ/ المفاهيم ومعانيها. ولهذا فإنني أعرف مقدماً أن هذه المقالة لن تقول الكلمة الفصل في مجال تعريف ماهية الثقافة المدنية، لأسباب كثيرة لعل من أهمها حداثة المصطلح نسبياً وخلافيته في كثير من الأعمال.
والحديث عن الثقافة المدنية حديث مركب لأنه في الوقت ذاته حديث عن الثقافة من جهة والمدنية من جهة أخرى، ولأن الأمر كذلك واستناداً لما تقدم، فإننا سنستعرض في بادئ الأمر المفهومين من زاوية لغوية فقط لضبط المعنى، وذلك في الآتي:
 أ- فهوم الثقافة:
بالرجوع إلى لفظ (الثقافة) ودلالاته في معاجم العربية وقواميسها والقرآن الكريم وعلومه والسنة النبوية وعلومها وكتب التراث الإسلامي بعامِّه، يستخلص أن منها ما يدل على الصفات الذاتية للمتعلم وهي: (الفهم – الفطنة – الحذق - سرعة التعلم - ضبط العلم)، ومنها ما يدل على معنى الآلة، حيث استعملت الثقافة أداةً وأسلوباً في (تسوية المعوج وما يدخل في ذلك من التهذيب والإصلاح والتقويم)، ويؤيد هذا ما ورد في بعض المصادر عن آلة كانت تسوى بها الرماح تسمى «الثقافة». ومنها ما يدل على معنى زائد عن الصفات التي يتصف بها المتعلم؛ ليشمل موضوع الثقافة محسوساً كان أو معنىً، كما في (الإمساك بالشيء والظفر به ومصادفته وحيازته).
فثقفت الشيء، أمسكت به. ومن بين معاني الثقافة «Culture» أيضاَ التثقيف والتهذيب والزراعة، وقد تعرّض هذا المعنى لانزياحات مختلفة عن معناه المعجمي، وقد وصلت ذروة هذا الإنزياح عندما أصبحت تعني الحضارة «Civilization» بشقيها المادي والروحي، فالثقافة بمعنى من المعاني هي التقدم والتنمية، فالشعب المتقدم شعب مثقف من دون شك.
ب- المدنية:
الحديث عن المدنية هو حديث يجرُّ معه الحديث عن التربية المدنية والدولة المدنية والمواطنة المتساوية والديمقراطية، وغيرها من المفاهيم ذات الصلة بالثقافة المدنية؛ وبهذا فإن المدنية: يمكن أن تعني بكل إيجاز «كلّ ما يرتبط بالحضارة والتقدم والتنمية من قوانين وأنظمة، ودولة مؤسسية ودستور عصري يحترم ويكفل المواطنة المتساوية لكل أفراد المجتمع، هذا بالإضافة إلى احترام الحريات الديمقراطية، وحرية التفكير، والمعتقد، ووجود صحافة حرة مستنيرة، وحق المرأة في الحضور الفاعل في الحياة السياسية والإجتماعية من دون أي قيد».
والمدنية التي يشتق منها لفظ مدني المضاف الى الدولة والمجتمع والثقافة، تعني في ما تعنيه أيضاً الأسلوب المتحضر في التعامل والتسامح مع الآخرين وتقبلهم. وبحسب الباحث محمود حواسن، فإن المجتمع المدني هو «تنظيم الناس لأنفسهم للمشاركة في حل مشكلاتهم، والتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم، والدفاع عن مصالحهم في مواجهة الآخرين بشكل سلمي».
ولكي يتّسم المواطن بثقافة مدنية ويصل إلى مستوى تطبيق قواعد العيش في المدينة، عليه أوّلاً أن يحبّ مدنيته، نحن نتغنّى كثيراً بحبّ بمدنيتنا وحبّنا لمدننا وأوطاننا، لكنّ هذا الحب لا بدّ أن نقرنه بالعمل. قرأت يوماً في إحدى الأوراق العلمية عن اليابان إنه ليس لها نشيد وطنّي؛ ذلك لأن اليابانيين يعبّرون عن حبّهم لوطنهم ومدنيتهم ومدنهم بالعمل وليس بالكلام.
من مبادئ الدولة المدنية: الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، كذلك مبدأ المواطنة والذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفاً قانونياً إجتماعياً بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات، يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
أيضاً من أهم مبادئها أن تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، وهذه في مجموعها -أي القيم - هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق ووجود حد أدنى من القواعد يتم اعتبارها خطوطاً حمراء لا ينبغي تجاوزها.
ومن أهم مبادئ الدولة المدنية، وهي «الدولة التي تسود فيها الثقافة المدنية»: أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة، كما أنها لا تعادي الدين أو ترفضه، برغم أن الدين يظل في الدولة المدنية عاملاً في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التي تحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة.
كذلك هي ثقافة تقوم على مبدأ الديمقراطية الذي يمنع من أن تؤخذ الدولة غصباً من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة أيديولوجية.
والثقافة المدنية كمفهوم، مثله مثل باقي المفاهيم، مفهوم حي يتطور في الزمان والمكان وتختلف تفاصيله من حضارة إلى أخرى. غير أن الاختلاف لا يمس المتن الرئيس في معنى ومبنى الثقافة المدنية، التي تقوم على نظام مدني من العلاقات، جوهره السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات؛ وهي ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق ووجود حد أدنى من القواعد، يتم اعتبارها خطوطاً حمراء لا ينبغي تجاوزها.
وحول هذه القضايا تدور الأفكار العامة في موضوع الثقافة المدنية، وتعرّف بصورة أكثر وضوحاً وتتبلور من خلال النقاش والجدل المنتظر حولها في مساهمات أخرى، فهل تفقه النخب السياسية اليمنية هذه المعاني التي تجمع الناس ولا تفرقهم؟