عرض كتاب : اليسار الفلسطيني إلى أين؟

. . ليست هناك تعليقات:





تأليف جميل هلال
صدر حديثا للكاتب الفلسطيني جميل هلال كتاب "اليسار الفلسطيني الى اين؟: اليسار الفلسطيني يحاور نفسه ويتأمل مصيره". وقد شارك في البحث لاعداد الكتاب طلال عوكل وزياد عثمان، وصدر الكتاب بتمويل من مؤسسة روزا لوكسمبورغ، 2009.
ويقع الكتاب في 353 صفحة من الحجم المتوسط، يحوي 7 فصول، تناول الفصل الاول الظروف المحيطة بنشوء ودور اليسار الفلسطيني، والحقل السياسي الفلسطيني يدخل حالة من انكشاف تام، وحاجة اليسار الفلسطيني الى رؤية جديدة.
وحمل الفصل الثاني عنوان "في تعريف اليسار لمفهوم اليسار"، وقراءة في فهم اليسار لمفهوم اليسار تناول خلاله الكاتب 4 محاور من ضمنها نشأة وسمات اليسار الفلسطيني، وتناول الفصل الثالث عنوان "تشخيص اليسار للعوامل الذاتية التي ساهمت في تراجعه تحدث خلال هذا الفصل في عدة محاور من ضمنها حول مشكلات البنية التحتية، ومداخلات حول التكوين الفكري والمفاهيمي لليسار والعلاقات بين قوى اليسار.
وجاء الفصل الرابع بعنوان "تشخيص اليسار للعوامل الموضوعية التي ساهمت في تراجعه"، تناول فيه عدة محاور رئيسية هي، تداعيات المتغيرات الدولية والاقليمية وتحولات مفصلية في الحقل السياسي الفلسطيني.
وتناول الفصل الخامس عنوان "تقييم اليسار لدوره في الصراع بين فتح وحماس، وجاء الفصل السادس بعنوان توقعات وامنيات واقتراحات من ضمنها لدعوة لمراجعة نقدية لتجربة اليسار واراء حول ضرورة وامكانية وشروط توحيد اليسار ومقترحات اجرائية وعملية لاحزاب اليسار وغيرها من المحاور الهامة.
واختتم الكاتب كتابه في الفصل السابع، الذي يلي، بعدة محاور منها، تأمل في متطلبات تشييد الهوية الفكرية والبنية التنظيمية لليسار، وتدقيق في العوامل الذاتية المولدة لتراجع اليسار ونظرة مجددة على العوامل الموضوعية لتراجع اليسار وغيرها من المحاور.

الفصل السابع: بدل الخاتمة
لم يحدث خلال الحوارات التي جزت مع ما يزيد عن مئة شخصية يسارية (تعرّف نفسها كذلك) أن جادل أي منها أن اليسار الفلسطيني ليس في مأزق أو أزمة أو في حالة تراجع. الجانب الإيجابي في هذا أته يعني وجود حالة استعداد لمناقشة أسباب المأزق أو التراجع، والأهم أن هناك حالة من التأهب لوقف التراجع وتوليد قوة دفع نحو استنهاض دور ونفوذ اليسار، أي استعادة حضوره الجماهيري، وبالتالي السياسي والاجتماعي والثقافي. القضايا الثلاث التي طرحت في اللقاءات مع اليسار تناولت تعريف اليسار لنفسه وتحديده لعوامل وأسباب تراجعه وتصوراته لشروط وطرق استنهاض دوره.
حول تعريف "اليسار" وهويته الفكرية وبنيته التنظيمية
كان من الطبيعي أن يثار في اللقاءات التي جرت مع اليسار[1] التساؤل حول ماهية أو محددات الحزب "اليساري", وهو تساؤل يبقى في محله فيما لو استخدم بدل تعبير "اليساري" تعبير "الماركسي" أو "التقدمي" أو "الديمقراطي"، أو حتى "الليبرالي". فجميع الأحزاب والحركات السياسية هذه تحمل، بشكل علني أو مستتر، بعدا أيديولوجيا أو فكريا كما تحمل أهدافا سياسية ورؤى وتصورات مجتمعية وثقافية. الأحزاب والحركات السياسية هي أدوات تعبئة تنظيم وتمثيل هدفها إحداث تغيير في واقع المجتمع الذي تنشط فيه وفق الأهداف والرؤى التي تحملها. ينشط في الحقل السياسي الفلسطيني عدة تنظيمات سياسية تقدم نفسها على أنها يسارية ومعظمها ممثل في مؤسسات منظمة التحرير. تعدد الأحزاب اليسارية الفلسطينية له أسباب تاريخية ترتبط بالتحولات التي شهدتها حركة القوميين العرب في الستينات من القرن الماضي والانشقاقات التي شهدتها تنظيمات يسارية (الجبهة الشعبية ثم الجبهة الديمقراطية و الحزب الشيوعي)، ومنها أن تبني الأفكار والتوجهات الماركسية لم يترتب عليه أعباء أو مخاطر خاصة خارج تلك التي تتعرض لها الحركة الوطنية الفلسطينية، بسبب البنية التعددية للحركة الوطنية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير، وقبلها البنية التعددية للحركة الوطنية الفلسطينية قبل نكبة العام 1948. لذا نجد التنظيمات اليسارية تمثلت في منظمة التحرير وتلقت موازنة منتظمة منها، وتمثل في مؤسساتها القيادية، ومن لم يتمثل سعى جاهدا لذلك، كما حصل مع الحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب لاحقا). الأحزاب اليسارية الفلسطينية الفاعلة في الحقل السياسي الوطني، لم تتعرض للمضايقات والضغوط والقمع الذي عرفته أحزاب اليسار في العديد من دول المنطقة. كما أن كونها أحزاب تنشط في حركة تحرر وطني لم يضعها أمام صياغة سياسات محددة للتحول نحو الاشتراكية ومواجهة القوى الطبقية والإقليمية والدولية التي تدعم الرأسمالية وتوطيدها.
الانحياز لخيار إقامة مجتمع اشتراكي واشتقاق سياسات راهنة ذات صله بهذا الخيار هو أحد أبرز المعالم المميزة للحزب اليساري. لكن بعد إمكانية تحقيق هدف بناء الاشتراكية، يملي على الأحزاب اليسارية التركيز على مهمات تمثيل مصالح الفئات التي عليها، كأحزاب يسارية تمثيلها. في الحال الفلسطينية المهام المطروحة على اليسار تندرج في أولا في سياق التحرر الوطني، وتندرج ثانيا في سياق نمط الدولة الأكثر استجابة لمصالح الفئات الاجتماعية التي يمثلها اليسار، أي الفئات الكادحة والمستغلة والأكثر احتياجا للتضامن والرعاية الاجتماعيين. ما يميز برنامج اليسار على غيره من الأحزاب هو التزام هذا البرنامج أولا بالديمقراطية بمفهومها الشمولي: أي ليس بمفهوم الديمقراطية السياسية (التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات عامة حرة ونزيهة، وفصل السلطات، وحرية التعبير والتنظيم والتظاهر والمعتقد والتفكير)، بل والديمقراطية الاجتماعية (أي ضمان حق المواطن في التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، الخ)، والديمقراطية الاقتصادية التي تبدأ بضمان حقوق الجميع في الأجر المتساوي للعمل المتساوي، وتضمن حدا أدني للأجور مربوطا بغلاء المعيشة وبنظام من الحقوق المختلفة (الإجازات المدفوعة الأجر، بما فيها إجازة الأمومة، الرعاية الصحية ومكافأة نهاية الخدمة، الخ) ولا تنتهي بالإقرار بحق العاملين والعاملات في أي منشأة أم مؤسسة أو مصنع بالمشاركة (المباشرة أو بالتمثيل الديمقراطي) في إدارة شؤون هذه المؤسسة أو المشغل أو المصنع وفي تلقي جزء عادل من عائدات هذه. تمسك اليسار بالديمقراطية ودفاعه عنها، يستند إلى أن البشرية لم تعرف نظاما أكثر ضمانة للتعددية وأكثر حفاظا على حقوق الفئات المستغلة والمحرومة والمضطهدة في التنظيم وفي المطالبة بحقوقها والدفاع عن مصالحها، وهي تضمن بالتالي لأحزاب اليسار بتمثيل هذه الفئات والدفاع عن مصالحا، كما تضمن لهذه الأحزاب حرية التنظيم والتنافس في الانتخابات العامة وفي طرح برامجها وأفكارها بحرية تامة أسوة بالأحزاب الأخرى دون خشية من الاعتقال أو الاستثناء أو الإقصاء.
أحزاب اليسار هي، بالضرورة، أحزاب تتمثل العلمانية لأنها الضمانة أولا للتعددية، وثانيا ضمانة للممارسة الديمقراطية والمحاسبة وفصل السلطات، ولأنها تحمي الدين من الاستغلال من قيل الحكام، وتحمي الدولة من سلطة تضع نفسها فوق سلطة الشعب وفوق المحاسبة والمساءلة، وتحمي المواطنين من أن يعاملوا كرعايا وملل وشيع أو أن يكفر بعضهم أو أن يفرض الانصياع على نصف المجتمع من النصف الآخر و/أو أن يفرض على نصف المجتمع التحجب باسم الدين والأخلاق. هناك على اليسار أن يتمعن في تملك الوعي التقدمي أو الثوري قد يكون متعدد المحركات التي قد تشمل التناقض مع الاستعمار والاحتلال الاستيطانيين و التناقض بين الطبقات الاجتماعية والتناقض الناتج عن سيطرة فئة أو شريحة على أخرى (بما فيها السيطرة الذكورية) والتناقض بين نظامين قيميين أو ثقافيين (كأن يكون أحدهما سلفي والآخر حداثي). على اليسار أن يعي أن التدين الشعبي (وليس التدين السياسي) هو ما يحمي الفئات الوسع من الشعب من اليأس وهو ما يولد المقاومة عندا تنهار الأحزاب اليسارية التقدمية. كما عليه أن يعي أن العلمانية والتنوير والتقدم والديمقراطية جزء من تراث وطني وقومي وعالمي عريق وليس قيم عابرة كما يريد لها البعض.
في الواقع لم ينشغل اليسار الفلسطيني (والعربي عموما) في تحديد هويته الأيديولوجية خارج إعلان الانتماء إلى الماركسية-اللينينية واعتبار الحزب الشيوعي السوفيتي المرجعية في شؤون الحزب اليساري التنظيمية والفكرية، إلا بعد انهيار هذه المرجعية. لكن وقع هذا الانهيار كان بطيئا بحكم قوة الدفع الذاتية التي امتلكتها أحزاب اليسار الفلسطيني عبر موقعها في مؤسسات منظمة التحرير، وبحكم غلبة المهام السياسية الوطنية على أجندتها النضالية وبحكم أن مؤسسات المنظمة تموضعت في الشتات حيث استندت تنظيمات اليسار كباقي التنظيمات السياسية (وتحديدا حركة "فتح") بالأساس على المخيمات كقاعدة اجتماعية وعلى التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية خلال فترة وجودها في لبنان (والأردن قبل ذلك) وبالتالي كان الكفاح المسلح الشكل الرئيس، وربما الوحيد، للنضال، خارج فلسطين، والضفة والقطاع أخذ أشكالا متنوعة في مقاومة احتلال استيطاني، في ظل ميزان قوى عسكري واقتصادي مختل لصالح إسرائيل، وقدمت المرحلة الأولى من الانتفاضة الأولى نموذجا خلاقا في تحويل ميزان القوى لصالح الحركة الوطنية عبر تنظيم المقاومة والصمود عبر اللجان الشعبية والمختصة وعبر توفير قيادة جماعية (بحضور أغلبي لليسار) لتوجيه الانتفاضة، وتمييز نضال الفلسطينيين في إسرائيل (الأراضي المحتلة عام 1948) كنضال أقلية قومية تقبع تحت نظام فصل وتمييز عنصريين. بتعبير آخر لم يتدرب اليسار الفلسطيني على قيادة النضال الاجتماعي والمطلبي والديمقراطي، ولذا بقي انتمائه الفكري إلى حد بعيد نظريا لم تصقله المواجهات مع القضايا الاجتماعية والمعيشية.
كما أن اعتماد اليسار الفلسطيني المرجعية الفكرية والتنظيمية السوفياتية، حرمه ليس من مسؤولية توطين الماركسية ضمن خصوصيات الحالة الفلسطينية، حيث تشظي المجتمع وتشتت الشعب وغياب التشكيلة الموحدة الاقتصادية-الاجتماعية، وغياب الدولة الوطنية وتأثيرات هذا الغياب على التكوين الطبقي والثقافي للشعب الفلسطيني، مضافا إليه التداخل الوضع الفلسطيني العضوي بالوضع العربي. كما أن اعتماد الصيغة التنظيمية للحزب الماركسي-اللينيني بتطبيقاتها لحزب حاكم في دولة عظمى حجبت عن نفسها التعددية والديمقراطية السياسية حرم اليسار الفلسطيني (والعربي) فرصة التحدي من توليد حزب أكثر قدرة على التعاطي مع الأوضاع الفلسطينية بالاستناد إلى تجارب أخرى في بناء الحزب اليساري أو الماركسي. والواقع أن انخراط أحزاب اليسار الفلسطيني (والحزب الشيوعي الفلسطيني وحزب الشعب لاحقا) في مؤسسات منظمة التحرير مع حفاظ كل منها على علاقات خاصة مع الدول الاشتراكية وبعض الدول العربية حرر هذه الأحزاب من مسؤولية توفير موارد لنشاطات تنظيماتها بالاعتماد بالأساس على الأعضاء الحزبين وعلى استثمارات الحزب الخاصة. هذا منح القيادة الحزبية الأولى قدرا واسعا من الاستقلالية عن القاعدة الحزبية ومن التعاطي معها بعلاقة شبه-ريعية (القيادة هي التي تصرف على القاعدة وعلى الكوادر) ومن تكديس المتفرغين بحيث بات نادرا ما تجد كادرا حزبيا غير متفرغ مما أوجد شريحة بيروقراطية واسعة بات لها مصالحا ورؤيتها الخاصة، ولا شك أن تورط منظمة التحير ومعها فصائل اليسار في الحرب الأهلية اللبنانية ساهم في عسكرة فصائل منظمة التحرير، بما فيها التنظيمات اليسارية، وفي تضخم أجهزتها العسكرية والأمنية والإدارية والتنظيمية والإعلامية، وفي بنى عسكرية وبيروقراطية (مكتبية) يصعب أن تنمو الممارسة الديمقراطية، وخاصة أن المركزية الديمقراطية بصيغها المحققة شكلت، بشكل واع أو غير واع، مظلة لإنتاج الوعي غير النقدي وحاضنة للوعي ألامتثالي.
يكفي التأمل في انهيار الأحزاب الشيوعية الحاكمة التي اعتمدت نظام المركزية الديمقراطية في علاقاتها الداخلية، وبالسهولة التي انهارت بها لإدراك أنها لا تشكل ضمانة "وحدة الفكر والعمل والإرادة" في الحزب. لكن الأجدى هو تأمل تجربة تنظيمات اليسار الفلسطيني التي اعتمدت المركزية الديمقراطية وما آلت إليه أوضاعها الداخلية من ضمور من جانب ومن "انفلاش" من جانب ثان، ومن انشقاقات وهجرة من جانب ثالث. وربما تحتاج هذه الأحزاب التأمل في حقيقة ثبات قياداتها الأولى لعقود دون تغيير لإدراك أن هناك علاقة بين ما سمي المركزية الديمقراطية وإعادة إنتاج السيطرة أو القيادة الأولى. وهي بحاجة بعد أن قامت السلطة إلى مراجعة أنظمتها الداخلية بعيدا عن التمرس وراء صيغ معينة أملتها ظروف وأوضاع وبيئة معينة ولم تعد تعكس لا صفات مفترضة للطبقة العاملة ولا شروط الواقع الفلسطيني. ويمكن أيضا دراسة تجارب أحزاب يسارية عديدة تخلت عن المركزية الديمقراطية وحافظت على تماسكها وحيويتها ونفوذها.
لا تستطع أحزاب اليسار أن يشكل النموذج للمجتمع التي تسعى وتجهد من أجل بنائه ولا أن تنقد الممارسات غير الديمقراطية للسلطة (ساء القائمة في الضفة أو في قطاع غزة) أو في مؤسسات منظمة التحرير، دون أن تقييم علاقاتها الداخلية على أسس من الديمقراطية والمكاشفة والمساءلة بالقدر الذي لا يعرضها للانكشاف التام أمام الاحتلال والقوى المعادية وعلى أساس أن أية قيود ذاتية على ممارسة الديمقراطية الداخلية هي قيود مؤقتة تزول بزوال أسبابها وبعد المحاسبة على أية ممارسات لتعطيل الديمقراطية في حين كان ممكن ممارستها دون تعريض التنظيم لمخاطر جدية. كما لن يكون لليسار مصداقية إن أعلن انحيازه لقضية المرأة الفلسطينية وأحجم عن تمثيلها في هيئاته القيادية، ولا يكفي إظهار الاهتمام بمشكلات الشباب إن بقين الهيئات الحزبية القيادية مغلقة الأبواب للشباب.
في اللقاءات التي أجرت مع الشخصيات اليسارية من الاتجاهات المختلفة سواء الحزبية أو خارج التنظيمات بان أن تعريف اليسار يتناوبه تعريفات ثلاثة: تعريف يشير إلى ارتباط اليسار بالفكر الماركسي أو بالمنهج الماركسي (المادي الجدلي كما في بعض الأدبيات، أو بالاشتراكية العلمية، دون توضيح المقصود بالسمة العلمية ما دامت الاشتراكية هي نمط إنتاج (وتوزيع) ونظام اجتماعي وسياسي). لقد بات تركيز تنظيمات اليسار الفلسطيني حاليا على المنهج وليس على العقيدة. التعريف الثاني يركز على سمات النظام الاجتماعي الذي يسعى له الحزب اليساري، وهما الديمقراطية والعلمانية وعلى القيم التي يرفع اليسار رايتها والمتمثلة في المساواة والتعددية والعدالة الاجتماعية. هناك تعريف يعطي الأولوية للممارسة وليس إلى مجرد الإعلان النظري عن الانتماء الفكري والقيمي. أي يركز على ما يمارسه الحزب اليساري، وتحديدا ضد الاحتلال وفي قيادة النضال الاجتماعي والديمقراطي، وبخاصة فيما يخص الدفاع عن حقوق العمال والنساء وعن مصالح الفقراء والشباب وفي إعلاء قيم ومبادئ العلمانية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتحويلها إلى سياسات وتشريعات وقضايا نضالية في مواجهة القوى التي ترفض هذه القيم أو تعمل على تقويضها. فالمساواة، على سبيل المثال تعني، من جملة ما تعني الوقوف الواضح ضد تعدد الزوجات وتنعي المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وهذا يعني النضال من أجل تتحول هذه المواقف إلى نصوص قانونية وأن يخاض من أجلها معارك اجتماعية لتكوين رأي عام مجتمعي (وإن أقلي في البداية).
اليسار الماركسي يتمايز بانحيازه الاستراتيجي، للخيار الاشتراكي، بكل ما ينبغي أن يعنيه ذلك من استخلاص دروس انهيار التجربة الاشتراكية السوفيتية ومن تعقيدات بناء اشتراكية في ظل عولمة النظام الرأسمالي، ونوعية التناقضات التي قد تبرز داخل النظام الاشتراكي (والصراع المتوقع على دمقرطة جذرية مستمرة للدولة الاشتراكية على سبيل المثال)، والتطورات الهائلة التي دخلت على التكنولوجيا والعلوم وتداخل بين النشاط الذهني والنشاط المادي (بما قد يتطلب توسيع مفهوم الطبقة العاملة)، وتلاشي الوحدات الصناعية الكبيرة لصالح وحدات أصغر وعولمة رأسمال مع فرض قيود على حركة قوة العمل . في حين يكتفي ما يمكن تسميته باليسار الاجتماعي بالانحياز للديمقراطية والعلمانية والمساواة والعدالة الاجتماعية وهي مبادئ وقيم يتبناها اليسار الماركسي كذلك. يلتزم اليسار الماركسي، وإن على المدى البعيد، بالعمل على بناء المجتمع الاشتراكي (بكل ما قي يتطلب ذلك من معرفة واستفادة من تجارب الاشتراكيات السابقة والحالية، بما فيها أهمية سيادة الديمقراطية بمفهومها كحاجة ضرورية للمجتمع ليمارس مدنيته وحضاريته وعقلانيته (وليس بمفهوم ذرائعي ولا بمفهوم تراثي انتقائي استبدادي). هدف اليسار الاجتماعي هو العمل من إقامة مجتمع ديمقراطي علماني عصري وتضامني (بمعنى دولة رعاية اجتماعية) دون الالتزام، بالضرورة، بالخيار الاشتراكي. في الوضع الفلسطيني كلا الاتجاهين يضعا ضمن أولوياتهما حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني والتحرر من الاحتلال والاستعمار الاستيطاني ونظام الفصل العنصري وإحقاق حق العودة.
بتعبير أحر يأتي الانحياز للخيار الاشتراكي (وهذا مرتبط بالتحولات المستقبلية العربية والإقليمية)، في الوضع الفلسطيني الراهن والمرئي، من قبيل التأكيد على الهوية الفكرية للحزب كون المهام المطروحة على اليسار وعلى مجمل الحركة السياسية الفلسطينية تندرج ضمن مهام التحرر الوطني، التي باتت بعد إقامة السلطة الفلسطينية تتداخل مع مهام البناء الديمقراطي. هناك أربعة تنظيمات، تشارك في مؤسسات منظمة التحرير ترفع راية التحول نحو الاشتراكية بعد قيام الدولة الفلسطينية (هي: الجبهتان الشعبية والديمقراطية، وحزب الشعب و"فدا") وهناك تنظيمات، في إطار منظمة التحرير، ترى نفسها كتنظيمات يسارية بالمفهوم الاجتماعي (منها جبهة النضال الشعبي، وربما جبهة التحرير الفلسطينية). وهناك تنظيمات ترفع شعار الماركسية والاشتراكية غير ممثلة في منظمة التحرير، ومقراتها الرئيسة خارج فلسطين (باستثناء الحزب الشيوعي الفلسطيني). وهذه جميعا أحزاب صغيرة جدا قد تجد مكانا لها في جبهة يسارية أو ائتلاف يساري أو حتى حزب موحد لليسار إذا ما توفرت جملة من الشروط لسنا بصدد مناقشتها هنا.
في الواقع ليس هناك من منظور الأهداف أو التوجهات الفكرية-الفلسفية ما يمنع من أن تتسع جبهة اليسار الفلسطيني بالأهداف التي طرحتها وثيقتها التأسيسية كائتلاف وطني ديمقراطي يساري لتضم عدد أوسع من التنظيمات السياسية من التنظيمات الثلاثة المشكلة لها. لكن المشكلة المزمنة التي بحاجة إلى تفاهم تكمن في الموقف السياسي، وهو الأمر الذي على جبهة اليسار أو أي صيغة توحيدية أخرى لليسار من إيجاد حل له على قاعدة العمل الموحد إزاء القضايا المتفق عليها (وهي واسعة في الحيز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري) وتقبل التباين في المواقف السياسية خارج أسس البرنامج السياسي المتفق عليه. ومهما يكن فهناك العديد مما هو مشترك في المواقف السياسية وتحديدا في الفعاليات النضالية ضد الاحتلال الاستيطاني (تهويد القدس، الجدار، الحواجز العسكرية الإسرائيلية، حصار غزة، القيود والتعامل العنصري على المعابر، مصادرة الأراضي، الأسرى وغيرها الكثير) عدا عن عشرات القضايا الاجتماعية والمعيشية.
أشار العديد من الآراء إلى طغيان الشأن السياسي على اهتمام التنظيمات اليسارية بحكم الشرط الفلسطيني. وترتب على هذا أولا؛ تدني اهتمام اليسار بالنضال الاجتماعي لم يؤسس لليسار قاعدة اجتماعية منحازة له وتنظر إليه على أنه الممثل لها والمدافع عن مصالحها، ولذا لا يجد اليسار قاعدة اجتماعية جماهيرية ضاغطة على تنظيماته للتوحد وإنهاء الشرذمة. ولذا لا تجد قيادات اليسار حرجا من التهرب من الوحدة حتى بأشكالها غير الاندماجية. كما أن التخلع المجتمعي القائم في الضفة والقطاع وتشظي الشعب الفلسطيني يحرر هذه المنظمات من التحرك نحو التلاقي بدلا من البقاء عرضة لتجاذبات التنظيمين الأكبر، ويحوّل التشابه في برامجها الاجتماعية إلى تشابه شكلي لأن القضايا الاجتماعية ليست، حتى اللحظة، في صلب اهتمامات هذه الأحزاب. ولعل هذا يشير إلى أحد أهم الأسباب الفعلية لتراجع اليسار والمتمثل في فقدانه التواصل مع جمهوره بسبب فهمه النخبوي لدوره (والمستند إلى تحويله الماركسية إلى عقيدة جامدة خارج نطاق الممارسة الإنسانية ومتجاهلين ما أكدته الماركسية نفسها من أن المعرفة نسبية وتاريخية) واعتباره أن سلطته غير خاضعة للرقابة والمحاسبة للمؤسسات الشعبية، و فهمه الشعبوي لقاعدته الاجتماعية المتخيلة (والتي يعكسها مفهوم وتعبير الجماهير).
حول العوامل "الذاتية" لتراجع اليسار
لا يزال هناك حاجة إلى مراجعة تنظيمات اليسار الفلسطيني (كل على حدة وبشكل جماعي إن أمكن) موضوعية وجريئة للأسباب والعوامل التي أدت إلى تراجعها، وخصوصا الأسباب والعوامل الذاتية، وقد يكون ضروريا (ومفيدا بالتأكيد) توسيع أطر المشاركة في هذه المراجعة، وما هو وارد في هذا البحث قد يوفر مداخل لتعميق هذه المراجعات. أحد أهم الملاحظات التي وردت في اللقاءات تلك التي اعتبرت أن العوامل الذاتية هي التي كانت صاحبة الدور الأكبر في تراجع دور ونفوذ اليسار وهي التي تحول دون استنهاضه لدوره. العوامل الذاتية الأبرز التي تقف وراء انحسار دور اليسار تحددت بالتالي:
أولا، تكلس البنية التنظيمية لأحزاب اليسار وافتقارها للمرونة الكافية لضمان التواصل بين القاعدة والقيادة وبين مجمل تنظيمات الحزب والجمهور المحيط به، وبالتالي افتقدت القدرة على التأقلم السريع مع المتغيرات الموضوعية والتحولات الخارجية. وبرز هذا غفي التحولات التي دخلت على الحقل السياسي خلال الانتفاضة الأولى، وبعد اتفاق أوسلو، وإثر قيام السلطة الفلسطينية، والتي أملت مهام جديدة وأشكال تنظيمية ونضالية تتلاءم مع المرحلة الجديدة والتي تطلبت الدمج الخلاق بين مهام التحرر الوطني ومهام النضال الديمقراطي. أي أن البنى التنظيمية بقيت أسيرة لتكوينها الداخلي المتوارث وأغفلت مسؤولياتها إزاء متطلبات النضال الوطني والديمقراطي، وهي لم تدرك طبيعة التحول الذي دخل على الحقل نتيجة اتفاق أوسلو وقيام سلطة فلسطينية، ونتيجة ظهور قوي سياسية جديدة في الحقل السياسي الفلسطيني قادمة من خارج منظمة التحرير ومن خليفة مختلفة تماما عن الحركة الوطنية الفلسطينية كما تشكلت منذ الستينات في الحقل السياسي، ممثلة بحركة "حماس" . هذا عدا عن تداعيات الانتقال من العمل السري إلى العمل العلني أو شبه العلني، وانتقال قيادات عدد من أحزاب اليسار من الخارج إلى الضفة الغربية وقطاع غزة وما ترتب على عدم إلمامهم الدقيق لواقع الضفة والقطاع، وتجنب اضطلاع اليسار بالدور التنويري المطلوب منه أمام صعود نفوذ الإسلام السياسي في المجتمع الفلسطيني، ومن اهتمام تفصيلي بمشاغل واهتمامات الانسان العادي.
لم يتردد بعض الكوادر في تشخيص واقع التنظيم بالقول أنه بات يدار كمؤسسة لتأمين مصالح خاصة تطغى على وظيفة الحزب السياسية والاجتماعية والثقافية. ويوجه هذا التشخيص الخطير أصابع الاتهام في ضعف اليسار إلى قياداته الحالية معتبرا إياها عنوان الأزمة، والمعطل الرئيس لوحدة اليسار كونها ترى فيها ما يضر بمواقعها وامتيازاتها. واعتبرها البعض أن قيادة اليسار هي المسؤولة عن تغييب المحاسبة السياسية والتنظيمية والإدارية والمالية، وأن المحاسبة غابت لقيادات اليسار رغم ما أصاب كل تنظيمات اليسار من تراجع وفقدان وزن وتخبط.
ثانيا، ضعف الدور الاجتماعي لتنظيمات اليسار المترافق مع تراجع في الدور الكفاحي. وهو انعكاس لافتقاد اليسار لإستراتيجية تجمع بين ممارسة النضال الاجتماعي ومواصلة النضال من أجل التحرر الوطني. لقد أضاع اليسار هويته الاجتماعية عبر إحجامه عن تبني قضايا الطبقات والفئات الاجتماعية التي على اليسار، ليكون يسارا، تمثيلها (العمال والفلاحين والفئات الفقيرة والمحرومة والكادحة)، ولتردده في تصدّر النضال وجمهرته ضد الفساد والإفساد، وسوء الإدارة، ومن أجل دمقرطة الحياة العامة، وصياغة قوانين وسياسات تقدمية لصالح المرأة والعمال والفئات المحرومة والمستغلة. هذا التغييب للدور الاجتماعي والفكري التنويري أفقد اليسار مصداقيته وعزله عن جمهوره الذي بات محط جذب من "حماس" و"فتح" بعد أن تخلف اليسار عن ممارسة دوره كممثل لمصالح وحقوق الكادحين والفقراء والمظلومين.
في سياق تفسير غياب الدور الاجتماعي لليسار وردت إشارات عدة إلى عزلة اليسار عن العمل والنضال الجماهيري، وعن تبعات استبدال المنظمات الجماهيرية الديمقراطية بمنظمات مهنية (منظمات غير حكومية) تعتمد على التمويل الخارجي وأجندات لا تنسجم أولوياتها بالضرورة مع رؤية اليسار للأولويات الوطنية، وعن دور هذه المنظمات في افقار الأحزاب اليسارية كوارد وقيادات مجربة. كما تكررت الملاحظة حول تراجع الاهتمام بتنظيم المرأة والشباب في أطر ديمقراطية غير حزبية (كما حصل في نهاية عقد السبعينات وفي عقد الثمانينات). وأخذت الآراء عدة على قيادة اليسار (التي ينقصها الشباب) تعطيل تجديد الهيئات وحجب الفرص عن الشباب لتولي مسؤوليات قيادية أولى، وميل تنظيمات اليسار إلى تفضيل العمل المكتبي والحلقي على العمل الجماهيري والتنظيمي والتثقيفي.
ثالثا، انحسار الدور الكفاحي لليسار منذ الانتفاضة الأولى، وهو ما اعتبره كثيرون العامل الأبرز في تراجع هذا الدور. وكثرة اعتبرت غياب الدور الاجتماعي والثقافي وانحسار الدور الكفاحي العاملان الحاسمان في تراجع اليسار. في هذا السياق وردت ملاحظات مختلفة من نوع أن اليسار لم يتقدم برؤية وممارسة كفاحية بديلة عن رؤية وممارسة حركتي "فتح" و "حماس"، وأن كل من "فتح" و “حماس" نجحت في شد بعض أطراف اليسار إليها مما باعد بين هذه الأطراف واضعف وزنها السياسي. وفي ذات السياق وردت الملاحظة الدقيقة من أن اليسار لم يقرأ بدقة ما يمثله الإسلام السياسي الأصولي ولم يواجه أجندا "أسلمة" المجتمع، وأنه، أي اليسار، لم يتصدر الصراع ضد أداء السلطة (بقيادة حركة "فتح") على صعيد المفاوضات وعلى صعيد بناء المؤسسات ولتهميشها مؤسسات منظمة التحرير. لقد قرأ اليسار الصراع بين حركتي "حماس" و "فتح" قراءه سياسية فقط، دون أن يدقق في أبعاده الاجتماعية والثقافية، وفسر البعض إحجام اليسار عن الدفاع عن العلمانية سببه الخشية من التصادم مع "حماس"، وأن تردده في مهاجمة الفساد سببه الخشية من التصادم مع حركة "فتح" في حين كان على اليسار أن يتحمل تبعات عضويته في منظمة التحرير التي تهيمن عليها وتغيب دورها هذه الحركة.
رابعا، ضعف الموارد المالية المتوفرة لدى أحزاب اليسار قياسا لما هو متوفر لدي "فتح" و"حماس". جانب من هذا الضعف أعيد إلى غياب سياسة مالية حكيمة سواء في الاستثمار أو في الصرف أو في الاعتماد على العمل التطوعي والاشتراكات والتبرعات الشعبية. هناك تأثير العوامل الخارجية التي مثلتها التحولات الإقليمية والدولية مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي لكن هناك مسؤولية ذاتية تتحملها قيادات اليسار التي قامت بمجاراة لأسلوب "فتح" (والمعتمد الآن كما يبدو من حركة "حماس") دون أن يكون لديها الإمكانات ولا الوسائل ذاتها. لقد تراجع العمل التطوعي بعد توقف الانتفاضة الأولى والذي ارتبط ببناء الأحزاب اليسارية لمنظمات جماهيرية ديمقراطية قطاعية (نساء، شباب، معلمين، أطباء، الخ)، وتراجع العمل التطوعي بتراجع حجم ودور هذه الأطر الجماهيرية، وجزء من هذا التراجع يعود للعلاقة النخبوية التي أقامها الحزب مع هذه الأطر وإصرارها على فرض سيطرة إدارية عليها. يرتبط بضعف الموارد المالية، على حد ما، افتقار اليسار لمنابر إعلامية قابلة للانتشار الواسع وغياب، حتى اللحظة إستراتيجية موحدة لليسار على هذا الصعيد تمكن من لإقامة مؤسسات إعلامية مشتركة (جريدة، مجلة، فضائية، الخ) قبل الوحدة تتسع لتباين الآراء بين قوى اليسار (ولا ضير من مشاركة قوى يسارية عربية) وتتناول المشترك الفكري والاجتماعي والثقافي (وحتى السياسي) الواسع بينها.
حول العوامل "الموضوعية" لتراجع اليسار
يواجه الشعب الفلسطيني واقع احتلال عسكري استيطاني استعماري ونظام تمييز عنصري وقومي كما يواجه واقع شتات ولجوء منذ أكثر من ستة عقود. إنه شعب تعوزه التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية والدولانية الواحدة. لذا فالمهمة الرئيسة للحركة السياسية الفلسطينية آخر هي وحتى إشعار آخر مهمة التحرر الوطني، وعليها أن توّحد وتنسق وتوجه نضال الشعب الفلسطيني بمكوناته الرئيسة الثلاثة (في الشتات، في الضفة والقطاع، وداخل الخط الأخضر). وعلى اليسار تحديدا أن يتمثل في برامجه ونضالاته وحدة الشعب الوطنية في نضاله من أجل التحرر بالإضافة لتمثيله لمصالح وحقوق الفئات الفقيرة والكادحة في نضالها من أجل المساواة والعدالة والمشاركة.
هناك إدراك بتأثير العوامل الخارجية والموضوعية على تراجع دور اليسار دون أن يرافق ذلك مسعى للتقليل من الدور الحاسم والمقرر للعوامل الذاتية، وهي مؤشر ايجابي وإن جاء متأخرا. من العوامل التي تركت تـأثبرات على اليسار فشل التجربة السوفيتية وانهيار منظومة البلدان الاشتراكية في بلدان أوروبا الشرقية، عبر انتفاضات وضغوط شعبية داخلية. يدرك اليسار، كما غيره، أن انهيار الاتحاد السوفيتي أدخل تحولا نوعيا في ميزان القوى الدولي مع اشتداد وتبرة عولمة الاقتصادي الرأسمالي وتبني الحزب الشيوعي الصيني لنظام السوق الرأسمالي. وساهمت التحولات في المنطقة منذ الثورة الإيرانية وحروب الخليج واستثمار جزء من عائدات النفظ الخليجية (بالترافق مع الدعم الأمريكي للحركات الجهادية السلفية ضد الشيوعية واليسار بشكل عام كما حدث في أفغانستان وغيرها) في دعم التيارات السلفية وفي السيطرة على المنابر الإعلامية (الصحف والفضائيات) في توليد بيئة سياسية وثقافية متنافرة مع القيم اليسارية والعلمانية والمساواتية. بل ولدّت بيئة أكثر احتضانا للأفكار الليبرالية الجديدة ولتنظيمات الإسلام السياسي وللحركات السلفية، وهذه نمت بقوة وبسرعة في المنطقة.
بانهيار الاتحاد السوفيتي فقدت منظمة التحرير الفلسطينية سندا سياسيا وماديا وباتت الولايات المتحدة، حليف إسرائيل الاستراتيجي، القوة الأعظم في العالم. وشكّل الاتحاد السوفيتي سندا سياسيا وأيديولوجيا وماديا (وتحديدا في مجال استقبال الآلاف من البعثات الجامعية والعسكرية الحزبية) لليسار الفلسطيني. لكن العلاقة كان لها تداعيات سياسية حدّت، ولو نسبيا، من استقلالية اليسار السياسية (الأخذ بعين الاعتبار مواقف الاتحاد السوفيتي السياسية، والامتناع عن انتقاد سياساته الداخلية)، كما تركت أثارها الأيديولوجية والفكرية (اقتداء اليسار بالمقولات الأيديولوجية السوفيتية بما فيها نظرية النظم والتنظيمات الديمقراطية الثورية)، والتنظيمية (اعتماد النموذج السوفيتي للحزب الماركسي-اللينيني، وللآليات المركزية الديمقراطية)، ولم يسعى بالتالي إلى الاستفادة من خبرة قوى اليسار الأخرى في العالم. رغم التأثير السلبي المباشر وغير المباشر لانهيار الاتحاد السوفيتي على اليسار الفلسطيني إلا أنه ينبغي الحذر من تهويل وقع هذا العامل بحكم أن اليسار الفلسطيني بقي محكوما لمهام التحرر الوطني. لكن انهيار الاتحاد السوفيتي أضعف منظمة التحرير، وهذا ترك وقعه على مكانة ونفوذ اليسار.
في الواقع أن معظم، إن لم يكن جميع، العوامل الموضوعية التي ذكرت كعوامل ساهمت في تراجع نفوذ اليسار، هي ذاتها التي أثرت سلبا على دور ومكانة وفعالية منظمة التحرير الفلسطينية كونها أثرت على تضاريس ومكونات وعلاقات الحقل السياسي الفلسطيني. فعدما عن وقع انهيار الاتحاد السوفيتي على إضعاف منظمة التحرير انهيار كان هناك التحولات في المنطقة بدءا من اتفاقية كمب ديفيد بين مصر وإسرائيل ومرورا بالثورة الإيرانية عام 1979، وإخراج منظمة التحرير من لبنان (1982) وبحروب الخليج، وانتهاء باتفاق أوسلو، وقيام السلطة الفلسطينية وبتفجر الانتفاضة الثانية وما تبعها من قمع ومأسسة جديدة لنظام الفصل العنصري ومن تجزئة لمناطق السلطة الفلسطينية، ثم وفاة عرفات وإجراء الانتخابات الرئاسية (2005) والتشريعية (2006) ووقوع الانقسام الجيو-سياسي بين حركة "فتح" و "حماس". هذه السلسة من التحولات والأحداث رفعت منسوب انكشاف الحقل السياسي الوطني إلى الدرجة الأعلى قبيل لحظة التفكك والتخلع التام. لقد بات الحقل السياسي الفلسطيني[2] تحت التأثير المباشر لقوى إقليمية (عدا عن إسرائيل هناك مصر والأردن والسعودية وسوريا وإيران) والدولية (وتحديدا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي).
بدأ تراجع اليسار الفلسطيني في الانتفاضة الأولى، أي في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي. والمفارقة أن الانتفاضة الأولى بقدر ما ميزّت دور وثقل اليسار (وتحديدا في مرحلتها الأولى)، أرست عوامل تراجعه. من هذه العوامل تفريط اليسار بمنظماته الجماهيرية الديمقراطية بعد أن تلاشت في أطر وطنية (لجان شعبية ولجان أحياء ولجان مختصة)، وعندما تراجعت هذه الأطر بفعل عوامل لها علاقة بأسلوب عمل منظمة التحرير والقوة المهيمنة عليها، لم يكن بإمكان تنظيمات اليسار إعادة بناء هذه الأطر الجماهيرية الديمقراطية بحكم التحولات التي بدأت تدخل على الحقل السياسي الوطني، وعدم وعي اليسار لأبعادها. وارتبط بهذا العامل فشل اليسار في إدماج (تنظيميا وسياسيا وفكريا) التوسع الهائل والسريع في قاعدته خلال السنتين الأوائل من الانتفاضة. العامل الآخر الذي شهدته الانتفاضة الأولى وكان من العوامل التي ساهمت في إرباك اليسار تمثل في ظهور الإسلام السياسي ممثلا في حركة "حماس" بما حمله من مشروع قيادة بديلة للشعب الفلسطيني (بديلا عن منظمة التحرير) وبما حمله من أفكار وبرامج شكلت النقيض لأفكار وبرامج اليسار.
وكان للموقف الذي اتخذته المنظمة من اجتياح الجيش العراقي للكويت التي أدت إلى وقف دول الخليج مساعداتها المالية لمنظمة التحرير، وتبع هذا تراجع وتقطع الدعم المالي لأحزاب اليسار من الصندوق القومي الفلسطيني، وارتباط هذه المساعدات لاحقا بالسلطة الفلسطينية وتحويلها من حق مقر من هيئات المنظمة إلى مساعدة تعطى بقرار شهري من رئيس السلطة الفلسطينية، مما سهل استخدامها كعامل ضغط سياسي مقبل التنظيم المهيمن على السلطة والمنظمة، ووضع اليسار في حالة يصعب معها وضع خطط يستدعي تكلفة مالية.
اتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، سارعا في تراجع نفوذ اليسار حيث كانت مؤسسات منظمة التحرير الضحية الأولى لهما، وما ترتب على ذلك من تقليص للنفوذ الوطني لليسار. فكلاهما أربك أحزاب اليسار وساهم في زرع أسباب خلاف جديدة بين هذه الأحزاب. لقد وجد اليسار نفسه دون قوى إسناد (مادي وسياسي وإعلامي) إقليمي ودولي خلافا للحركتين المذكورتين.
مع انغلاق الأفق السياسي أمام الدولة المستقلة وتنامي قوة حركة “حماس" بات الحقل السياسي أسير قطبين سياسيين دون أن يجهد أو ينجح اليسار في تشكيل قوى وازنة بينهما. لقد نجحت "حماس" إلى حد كبير في مشروعها الهادف إلى "أسلمة" المجتمع الفلسطيني دون مقاومة تذكر من اليسار الذي لم يهيأ المستلزمات النضالية الضرورية لحقل ما بعد السلطة وما بعد اقتحامه من قبل "حماس". من هنا استمر في إهماله النضال الاجتماعي والديمقراطي والثقافي وإهمال دوره التنويري التقدمي والتصدي الفكري لمشروع "حماس". كما نجحت "حماس" في بناء قوتها الجماهيرية والعسكرية دون انتباه من حركة "فتح" بعد أن انصرف كوادرها وقادتها للتوظّف في مؤسسات وأجهزة السلطة. تنظيمات اليسار لم تجهد في وضع "فتح" أما مسؤولياتها كتنظيم أو حزب.
اليسار والصراع بين "فتح" و"حماس"
معظم الآراء التي أبديت حول دور أحزاب اليسار في الصراع الدائر بين "فتح" و"حماس" كانت انتقادية واعتبرت أن هذه الأحزاب تقوم بإضاعة جهدها في محاولات التوفيق والتوحيد بين "فتح" و "حماس" بدل من بلورة مبادرة وطنية بديلة عما تطرحه كل من الحركتين المتنافستين على سلطة تقام تحت الاحتلال والحصار. هناك من يرى أن على هذه الأحزاب استثمار اللحظة السياسية في بناء قواعدها الجماهيرية، مستفيدة من انكشاف لعبة الصراع بين "فتح" و "حماس" على السلطة دون الالتفات إلى تداعيات هذا الصراع على القضية الوطنية ومعنويات الجمهور الفلسطيني في فلسطين وفي الشتات. ولا يجد حرص فصائل اليسار "المبالغ فيه" على الظهور بمظهر المحايد في الصراع بين الحركتين استحسانا من غالبية الآراء، ويسري هذا على ظاهرة توزع مواقف قوى اليسار بين الطرفين المتصارعين.
العديد من المتداخلين عبر عن خشيته من أن يتمخض عن الصراع الحالي، اتفاق بين "فتح" و "حماس" على محاصصة لا تمنح قوى اليسار أكثر من دور هامشي أو ديكوري. ويرافق هذه الخشية توقع من أن يقود الصراع الحالي إلى ترسيخ نظام الحزبين الكبيرين وينهي ظاهرة التعددية السياسية والفكرية التي مثلت تاريخيا أحد أهم نقاط القوة في تكوين الحركة الوطنية الفلسطينية، قبل العام 1948 وفي منظمة التحرير الفلسطينية قبل تهمشيها من قبل السلطة الفلسطينية التي يستفرد فيها الآن تنظيمان كل على "إقليميه". هذا يشكل تهديدا مباشرا لمقومات الديمقراطية والعلمانية.
لقد عكس الانقسام الجغرافي-السياسي الحاصل حالة الوهم والانكشاف التي لحقت بالحقل السياسي الوطني نتيجة الصراع بين التنظيمين الأكبر، كما قادت مأسسته إلى المزيد من الانكشاف للتدخل الخارجي في تفاصيل الحياة السياسية والمالية والإدارية والأمنية والاقتصادية الفلسطينية. يبرز هذا أكثر ما يبرز في تشديد إسرائيل لوثيرة استيطانها إلى حدودها القصوى وفي مواصلتها بناء المعازل السكانية في الضفة الغربية وفي تهويد القدس ومأسسة نظام الفصل العنصري وفي فرض حصارها العدواني على قطاع غزة، وفي شنها حربا على سكانه في كانون الأول عام 2008 وكانون الثاني من العام 2009 دون أن تجد رادعا لما تضمنته هذه الحرب من جرائم ضد الإنسانية. لم ينجح اليسار في تقديم نفسه باعتباره الطرف الأكثر حرصا على قضية شعبه الوطنية والأكثر التصاقا بهموم ومصالح الفئات الأوسع من هذا الشعب والأكثر استعدادا للدفاع عنها.
حول رؤية اليسار لمستلزمات استنهاضه
لم يعد خفيا على اليسار الحزبي وغير الحزبي أن بقاء اليسار على حاله سيقود إلى المزيد من التآكل والتهميش والتراجع. كما كان واضحا، إلى حد كبير، من تشخيص الأسباب الذاتية لتراجع اليسار الفلسطيني في العقدين الأخيرين ما هو مطلوب لوقف التراجع وتوليد حالة نهوض جديدة رغم ما تضعه الشروط الموضوعية من عقبات وعراقيل. ولعل العناوين التالية للخطوات المطلوبة هي أبرز ما يمكن استخلاصه من تأملات اليسار لواقعه (وبعضها تأملات لا تخفي تحسرها على ماضي قريب وخيبة أمل من حاضر قاس ومن تصميم على تصور لمستقبل واعد):
أولا، برز رأي يرى حاجة لقيام تنظيمات اليسار بمراجعة نقدية وموضوعية لتجربتها التنظيمية (الداخلية والجماهيرية) والسياسية والفكرية ولعلاقاتها مع قوى اليسار الأخرى ولمجمل علاقاتها الوطنية ولدورها في المؤسسات الوطنية والاتحادات الشعبية والنقابات العمالية والمهنية. ولا شك أن مثل هذه المراجعة (وبخاصة إن شملت الكادر ولم تقتصر على القيادة) ستكون ذات فائدة إن جرت بشكل موضوعي بعيدا عن أي نفس تبجحي وتبريري للذات ولا بنفس اتهامي وتخطئي للغير. وقد يكون مفيدا إن أجريت مراجعات جماعية (على صعيد اللجان المركزية لأحزاب اليسار مثلا) لتنظيمات اليسار وحتى مشاركة يساريين مستقلين. وستشكل المراجعة النقدية الموضوعية خطوة أولى على طريق استعادة ثقة الجمهور الفلسطيني باليسار وخصوصا إن تمت مصارحته بنتائج هذه المراجعة وإن اتسمت بالموضوعية والجرأة والرغبة في التصحيح والتعلم (ولا فائدة منها إن لم تكن موضوعية). وقد تشكل مثل هكذا مراجعة خطوة لتوضيح خيارات اليسار ولما يحمله من قيم ورؤى، وبالتالي تمايزه عن القوى السياسية الأخرى. كما قد ستسهل أمام قوى اليسار الوصول إلى تفاهمات مشتركة حول القضايا المطروحة على جدول الأعمال الوطني، بداء من معضلات العمل الوطني الفلسطيني في ظل انسداد الأفق السياسي أمام تسوية سياسية عادلة، إلى قضايا الانقسام السياسي، وإلى التجزئة السكانية- الجغرافية المتولدة عن سياسة الاحتلال الاستيطاني العنصرية، وإلى أشكال المقاومة الأكثر قدرة على الفعل في ميزان القوى السياسي والاقتصادي والعسكري والأخلاقي، وإلى مقومات وأسس وشروط التفاوض، إلى قضايا المساواة والعدالة الاجتماعية والمرأة، والعلمانية، ولأساليب العمل النضالي، وسبل تعزيز الاستقلالية المالية لتنظيمات اليسار. هذا إضافة إلى ما سيترتب عن هكذا مراجعة من صيغ وترتيبات وبرامج تتصل بإعادة بناء اليسار وتجديد دوره الكفاحي ودوره الاجتماعي والثقافي.
ثانيا، لا شك أن اهتمام خاص وملح بقضية توحيد اليسار واعتبرت القضية مصيرية بالنسبة لمستقبل اليسار وحاسمة كشرط لاستنهاضه. وبرز اهتمام خاص بالبدء بتوحيد الجهد في المنظمات القطاعية الديمقراطية، وتحيدا المرأة والعمال والطلاب ورغبة شديدة بأن لا تقف القيادات الحزبية عائما أما توحيد جهد ودور هذه الأطر الديمقراطية. لا شك أن المحرك وراء منح هذا الاهتمام بحدة اليسار هو الخوف من تواصل حالة الضعف والوهن، وارتباط هذا الضعف ولو بشكل جزئي بحالة تشرذم اليسار مما يساعد على وقوع تنظيماته لتأثيرات التنظيمين الكبيرين. الوحدة المرجوة هي وحدة بين أحزاب اليسار (الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة) على أن تتم على أسس تمكن من جذب أعداد ملموسة من اليساريين المستقلين إلى التشكيل الجديد. لكن موضوع الوحدة (على تنوع الصيغ المرئية لها) لم يطرح كعملية إدارية أو تجميعية بل ارتبطت، كما بينت المتدخلات من الأطراف المختلفة لليسار، بشروط كان أولها تجديد ودمقرطة البنية التنظيمية لليسار الموحد، وكان ثانيها بالتأكيد على حاجة اليسار أن يوفر كل أسباب وصيغ الانفتاح الجماهيري، بالإضافة إلى انفتاحه على اليسار العربي والعالمي. وكان ثالثها تركيز العديد من المداخلات على ضرورة ربط عملية التوحيد (بغض النظر عن صيغها) بإبراز تمايز توجهات ورؤى التشكيل اليساري الجديد الاجتماعية والفكرية والسياسية عن التنظيمين الكبيرين الفاعلين في الحقل السياسي الفلسطيني. ولا بد من أن يبرز التمايز في مجال الرؤية الاجتماعية والثقافية، وفي الدور الملموس لليسار في الدفاع عن مصالح وقضايا العمال والفقراء والمرأة والشباب، وفي إعادة الاقتصاد إلى دائرة اهتمام اليسار وخصوصا في ربط السياسات الاقتصادية بالسياسات الاجتماعية تعزيزا لمقومات الصمود الوطني.
ثالثا، حول أشكال وحدة اليسار هناك أكثر من تصور تقاطع بين كوادر تنظيمات اليسار وبين من هم خارج هذه التنظيمات، ويمكن إدراج هذه التصورات وفق الصيغ التالية:
1. رأي يرى ضرورة في إنجاز ترتيبات توحيدية في أسرع وقت، خشية من أن تواصل تراجع اليسار إلى درجة الاندثار، انطلاقا من أن الشرذمة تغذي التفكك والتراجع في حقل سياسي بات ثنائي التكوين الحزبي. بالنسبة للصيغة التوحيدية فهي تتدرج من الاندماج الكامل في حزب يساري جديد (من القاعدة حتى القمة)، إلى صيغ جبهوية تتدرج من حيث درجة تماسكها التنظيمي الداخلي، من الشكل الفضفاض كما هو حال جبهة اليسار الفلسطيني، إلى صيغة ذات أشكال أرقى من التوحد تشمل توحيد ما يمكن من المواقف السياسية، واعتماد اللوائح الانتخابية الموحدة (المجالس الطلابية والنقابات المهنية وفي انتخابات المجلس التشريعي)، وتوحيد برامج ومواقف الأطر الجماهيرية القطاعية (المرأة، والعمال، والطلاب). البعض اقترح على اليسار البدء بتوليد مصالح مشتركة بينها عبر بناء مؤسسات مشتركة تدار على أسس مهنية في خدمة اليسار ككل. واقترح آخرون على تنظيمات اليسار العمل المشترك لبناء حركات اجتماعية حول قضايا وطنية واجتماعية محددة (مقاومة الجدار والاستيطان، وتهويد القدس، قضايا الفساد، والبطالة والفقر، وقضية المرأة، مقاطعة البضائع الإسرائيلية، قضايا التلوث البيئي،...) و تكرس قواها من أجل حشد القوى حوله.
2. رأي آخر يرى أن لا أمل في أي وحدة حية بين قوى اليسار ما لم يتغير التكوين القيادي الحالي لهذه القوى لأنه يعتبرها العائق الرئيس أمام عملية التوحيد بحكم اعتبارات فئوية وشخصية لا تأخذ بعين الاعتبار الدور المنوط باليسار في هذه المرحلة تحديدا، وهي قيادات تقادم معظمها وعليه أن يفسح الفرص للشباب والشابات، ولا يملك التكوين الذي تربى على النظر للقوى اليسارية الأخرى من منظار عدائي أو يمنح الهوية الحزبية الضيقة أهمية أكبر من هوية يسارية أشمل تحت حجج واهية. هذا الرأي يصر على أن معظم قيادات تنظيمات بفعل غياب التجديد والديمقراطية الداخلية، وبفعل نظام "الكوتا" السائد في مؤسسات منظمة التحرير واعتماد تنظيمات اليسار إلى حد كبير على دعم مالي من منظمة التحرير ومن ثم من السلطة الفلسطينية، لا تريد التوحيد لأنه يضر بمصالحها. ومن إلحاح أصحاب هذا الرأي على إجراء المراجعة النقدية الشاملة وتجديد بنى كل أحزاب اليسار خوفا من أن تؤدى عمليات توحيد تنظيمات يسارية مأزومة لخلق تشكيل مأزوم.
3. يرى البعض أن وحدة اليسار لن تستدعي وجود قطب يساري جاذب، وأن وجود أكثر من قطب (كما هو الوضع الحالي) سيبقي التنافس قائما، وتحديدا أمام غياب ضمانة من أن الوحدة ستجلب النتائج المرجوة وضمن فترة زمنية قصيرة نسبيا، مقابل ما يمكن أن يخسره الحزب من مواقع وموارد ومناصب إن اندمج في حزب جديد حتى وإن كانت حظوظه أوسع في مجال النفوذ الجماهيري وفي استقطاب التأييد الانتخابي. وهنا نعود مرة أخرى إلى الدور الحاسم للقيادة في أية عملية توحيدية. أحد القياديين لخص الوضع كالتالي: "الظروف الموضوعية تدفع باتجاه وحدة اليسار الفلسطيني، لكن الظروف الذاتية لهذا اليسار لم تنضج بعد. وأعتقد أن ذلك يحتاج لجهد ووقت على أن يبدأ ذلك بالتدرج نظرا للعقبات التنظيمية التي تحكم أطراف اليسار واستمرار غياب القدرة على الجمع بين الوطني والاجتماعي". ولخص قيادي من تنظيم آخر الوضع بالقول: "لا مستقبل لليسار إلا إذا توحّد وبلور رؤية تميزه عن كلا القطبين. التنفيذ يصطدم بالبنى القائمة والتي ولدت لنفسها حالة من الاستمرارية تصل حد التكلس، وكأي بنى قائمة تلتصق بها مصالح".
رابعا، هناك حاجة إلى التأكيد على أن وحدة اليسار ليست كافية، بحد ذاتها، لاستنهاض دوره واستعادة نفوذه الجماهيري. فالوحدة ليست وصفة سحرية توقف تراجع اليسار وتعيد له دورا منشودا. لكن ينبغي الحذر من تحويل شعار وحدة اليسار إلى صنم أو إلى عقيدة خلاصية، فهو ليس سوى أداة توضع في خدمة جملة من الأهداف، لذا من الضروري التذكير أن وحدة اليسار يجب أن تخدم الأهداف المباشرة التالية:
أ. تنمية الاهتمام التفصيلي بالقضايا الاجتماعية والمعيشية وهي كثيرة ومتجددة ونجدها في القرى والمخيمات والمدن، وهذا يستدعي أن يعاد هيكلة وتوجيه منظمات الحزب القاعدية والقيادية لهذه المهمة وإدماجها بمهمة تنظيم مقاومة الاحتلال وفق متطلبات الشرط الموضوعي والذاتي. لا يكفي رفع شعار العدالة الاجتماعية إن لم يجر ترجمته تفصيليا إلى خطط عمل وسياسات في مجال التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي، كما يشمل قضايا من نوع البيئة المجالس البلدية والمحلية وقضايا البنية التحتية والمعابر، والمقاطعة الاقتصادية والثقافية لإسرائيل، وما إلى ذلك. ويسري هذا على قضايا الأخرى منها تفصيل مسالة المساواة إلى خطط ومواقف تبدأ في محاربة الفساد ولا تنهي بالمطالبة بحقوق المرأة وترجمتها في قانون الأسرة والأحوال الشخصية، الخ.
ب. ضرورة دعم ومساندة دون أي تحفظ خطوات تشكيل ائتلاف نسائي يساري ديمقراطي يتولى بلورة رؤية مشتركة، وتعزيز هوية فكرية واجتماعية للمرأة اليسارية، ويرسم إستراتيجية موحدة في مواجهة قضية تحرر المرأة الفلسطينية في المرحلة الراهنة. وفي السياق نفسه مطروح دعم ومساندة أحزاب اليسار للائتلاف اليساري العمالي الموحد الذي أعلن عن تشكيلة في صيف 2009، بهدف توحيد الحركة العمالية الفلسطينية وتعزيز دورها في النضال الديمقراطي الاجتماعي وعلى الصعيد الوطني. كما يسري هذا إسناد جهود تشكيل كتل طلابية ديمقراطية موحدة في الجامعات ووقف التدخلات الفوقية لفرض صيغ معينة على قوائمها الانتخابية.
ج. تنمية الدور الكفاحي لليسار، وهو دور خفت بشكل ملحوظ خلال العقدين الأخيرين، ويستدعي من اليسار التمايز في رؤيته الكفاحية عما يطرحه اليمين الوطني واليمين الإسلامي، وسأعود إلى هذا الموضوع لدى إثارة موضوع دور اليسار في طرح إستراتيجية للمقاومة الشعبية.
خامسا، برز ميل واضح إلى أن على اليسار تبنى إستراتيجية المقاومة الشعبية وحصر المقاومة المسلحة، في المرحلة الراهنة، في الضفة الغربية حيث الوجود المباشر للاحتلال والاستيطان، على أن تتم المقاومة المسلحة وفق إستراتيجية وطنية وفي خدمة النضال الوطني وربط المقاومة الشعبية والمسلحة بإستراتيجية تفاوض متفق عليها وطنيا أيضا. الرأي المهيّمن بين تيار اليسار يدعو إلى التوصل إلى اتفاق وطني على أشكال النضال والمقاومة (مع التشديد على أهمية وضرورة المقاومة الشعبية) في هذه المرحلة كما الاتفاق على وظيفة وأهداف وشروط التفاوض (وبخاصة مع صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف لسدة الحكم). وهذا يفترض أن يحدد إستراتيجية التحركات والموقف السياسية لتنظيمات اليسار ووحدة هذه المواقف.
سادسا، لدى مناقشة حل الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة على أرض فلسطين التاريخية مقابل حل الدولتين برز تباين واسع في الآراء، بما في ذلك داخل التنظيم الواحد. الطرح الذي يتبنى شعار الدولة الواحدة يستند على كونه الأكثر عدالة، بما في ذلك لحقوق اللاجئين الفلسطينيين والحقوق التاريخية الفلسطينية من جانب، إضافة إلى تعطيل إسرائيل لإمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. الطرح الذي يتبنى حل الدولتين يستند إلى قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية وإلى أن إقامة الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967 بات يحظى بتأييد عربي ودولي واسع وأن ذلك يجعله أقرب إلى إمكانية التحقق لأن موازين القوى تميل لصالح أكثر بكثير مما تميل لصالح حل الدولة الواحدة. هناك رأي الذي لا يضع تعرضا بين شعار الدولتين وشعار الدولة الواحدة على اعتبار أن الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967 يمكن أن توفر الحل المرحلي المؤدي والممهد للدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة على أرض فلسطين التاريخية.
من المهم أن يحافظ اليسار الفلسطيني على الرواية الوطنية الفلسطينية في مواجهة الرواية التي تقوم على تجزئة تاريخ الشعب الفلسطيني والتعامل مع كل مكون من مكوناته على حدة، وصولا إلى اختزال قضية الشعب الفلسطيني إلى قضية احتلال الضفة والقطاع في العام 1967 وليس فضية شعب تعرض للتطهير العرقي ويتعرض الآن لنظام تمييز عنصري واحتلال استيطاني استعماري.
سابعا، هناك إجماع تقريبا على ضرورة حصر دور السلطة الفلسطينية في شؤون المجتمع الحياتية للمواطنين في الضفة والقطاع، وعلى أن تكون مسؤولة أمام منظمة التحرير كونها الطرف المعني دون سواه بالشأن والتمثيل السياسي الوطني. كما أن الأغلبية ترى ضرورة في الحفاظ على مؤسسات السلطة حرصا على توفير الخدمات (الصحية والتعليمية والاجتماعية المختلفة) للمواطن، وللدور الذي يمكن أن تمارسه في بناء اقتصاد مقاوم للاحتلال. هناك إصرار على إخضاع السلطة الفلسطينية لرقابة ومساءلة منظمة التحرير بشرط دمقرطتها وإعادة الحياة والفعالية لمؤسساتها وهيأتها.
بالنسبة لمنظمة التحرير هناك إصرار على الحفاظ عليها، وإصرار على دمقرطتها وإحياء مؤسساتها عبر الانتخابات (حيث يمكن ذلك وسائل ديمقراطية أخرى حيث لا يمكن إجراء انتخابات) وفق نظام التمثيل النسبي وبنسبة حسم تتيح تمثيل أوسع القوى السياسية. لكن تبقى الحاجة إلى تفصيل مضمون الإصلاح وكيفية إعادة الحياة لمؤسسات واتحاد وهيئات المنظمة وطرائق عملها وأماكن مقراتها وموازناتها الخ حتى لا يتحول الإصلاح إلى مجرد شعار عام بدون مضمون مدقق ومفصل. هناك خشية واضحة من أن ينتج عن اتفاق بين "فتح" و "حماس" حول تشكيل المنظمة محاصصة تستثني الأحزاب اليسارية أو تهمش دورهاـ بحيث يكفي الاتفاق بين التنظيمين الأكبر لتمرير أي قرار أو توجه يتفقا عليه. القضية الثانية التي تحتاج إلى نقاش هي برنامج المنظمة، كممثل لكل الشعب الفلسطيني، وآليات علاقتها بالسلطة ومؤسساتها.
ثامنا، ظاهرتان يتميز بهما اليسار الفلسطيني حاليا: الأولى ضعف موارده المالية لأسباب ذكرت، والثانية ضعف شبكة علاقاته العربية والدولية مع قوى وأحزاب اليسار. لذا حاجة اليسار إلى إستراتيجية لتنمية موارده لمالية بدءا من الاشتراكات لأهميتها كحافز في مساءلة الهيئات الحزبية وكدليل على الانحياز لقيم وخيارات ومفاهيم تقدمية، مرورا بسياسة استثمارية حكمية، وانتهاء بدور لليسار في تأمين موازنة ثابتة له من ضمن موازنة منظمة التحير الفلسطينية كحق وليس كمنة أو عبر قرار فردي، وقد يستدعي هذا اعتماد قانون للأحزاب السياسية. وسواء وضع قانون للأحزاب أما فهناك حاجة إلى مأسسة التدقيق في موارد وأوجه صرف الأحزاب والتنظيمات السياسية، واعتماد الشفافية التامة في هذا المجال. كما أن على اليسار إعادة بناء شبكة علاقاته العربية والعالمية مع القوى اليسارية والتقدمية. فاليسار، كما علق أحد مناصريه، بحاجة إلى حاضنة إقليمية وعالمية مقابل حاضنة الإقليمية والدولية كل من حركة "فتح" و "حماس".
________________________________________
[1] يرجى مراجعة الملاحظات القيمة للزميلين طلال عوكل وزياد عثمان حول لقاءاتهما مع اليسار في الملحق رقم 1.
[2] مفهوم الحقل السياسي الفلسطيني يشمل الأحزاب والقوى السياسية والمؤسسات الوطنية (بما فيها مؤسسات السلطة) والبنى الفوقية (المتمثلة في الأعراف والمواثيق وقرارات المجالس الوطنية وإعلان الاستقلال وفي النظام الأساسي للسلطة)، وفي نظام الانتخابات ونظام الحكم والسيطرة على وسائل الإعلام الفاعلة، وما يمكن تسميته بالثقافة السياسية، والقيم المتنافسة في المجتمع، وبمكونات والعلاقات البينية لما يسمى بالمجتمع المدني.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة