ثقافة التسامح غدت ضرورة قصوى لمواجهة الضرر الذي تخلقه الكراهية في مكان ما يتسرب إلى العالم أجمع لهذا تكون مهمة إشاعة ثقافة التسامح عالمية وليست محلية فقط فالتطرف الديني لا بد أن يواجه بثقافة مختلفة لا يكون التراث بعيداً عنها بما فيه من مؤشرات على التسامح.
السبت 2019/06/01
بقلم: زيد بن رفاعة
تتطلب مكافحة ومقاومة التطرف الديني الذي زرعته تيارات وجماعات الإسلام السياسي والمرتكز دينيا على فكرة الولاء والبراء، ترسيخ ثقافة بديلة ومختلفة، قوامها الصفح والتسامح عبر الغوص في قراءات دينية تُصفي كل ما خلفته هذه التيارات المتطرفة من شوائب، خاصة أن الدين الإسلامي لم يكن يوما بعيدا عن معاني التسامح والصفح. هذه المقاربة التي ترسم قيمة التسامح كضرورة ملحة على العالم، غاص في خباياها الكاتب السعودي تركي الدخيل في كتاب بعنوان “التسامح زينة الدنيا والدين”.
"لو أن طفلك سأل عن سر القتل باسم الله، والاستئصال بدعوى تحقيق هدف عقائدي، والتكفير للإنسان المخالف بحثا عن تطهّر ذاتي، لم تستطع أن تجيبه بأكثر من شرح مفهوم التسامح، ولكن تريد للمفهوم أن يكون مبسطا وبمتناول يد الأجيال الناشئة”.
بهذا النص استهل تركي الدّخيل كتابه “التسامح.. زينة الدّنيا والدّين”، سؤال يحار فيه الآباء، فالجواب سيكون فظيعا إذا توغل الأب في الأسباب الدِّينية والطائفية التي سكنت أدمغة مَن يقتل باسم الله، ويُكبر عند تفجير قنبلة أو رمي رصاصة أو طعنة سكين برقبة الضحية، وهذا ما حصل للروائي نجيب محفوظ، وكان محاول قتله لم يقرأ شيئا له، وقيل لا يقرأ ولا يكتب، لكنه قام ليُنفذ الواجب بعد حفظ فتوى الاغتيال.
ضرورة الصفح
يتضح كتاب تركي الدّخيل، من عنوانه “التّسامح.. زينة الدّنيا والدّين” أن الحياة به تستقيم وتغلب السعادة فيها على الحزن، أما الدِّين فسيعود إلى مهمته المتعلقة بالضمائر، بين الفرد وربه، وسيكون كابحا للقتل والكراهية، إذا نُقي من فكرة “الولاء والبراء” وعكَسَها في سياسة توعية المجتمعات. إن هذه الفكرة التي يعمل متشددا بها الإسلام السياسي على العموم، وبالتّالي فلا يكون التّسامح مفيدا للدنيا والدين، إذا قسم أبناء الوطن الواحد إلى موالين وأبرياء مِن الذمة. فمهما ادّعي أتباع الجماعات الدينية بأنهم قادرون على المزج بين التسامح وفكرة الولاء والبراء، فهذا مجرد ادّعاء لا أكثر.
أصبحت ثقافة التسامح ضرورة قصوى، ذلك إذا علمنا أن العالم صار ملتحما عبر وسائل الاتصال والتواصل، والضرر الذي تخلقه الكراهية في مكان ما يتسرب إلى العالم أجمع، لهذا غدت مهمة إشاعة ثقافة التسامح عالمية وليست محلية. إن تشدّد التطرف الديني، الذي تمثله الجماعات الإرهابية، لا بد أن يواجه بثقافة مختلفة، لا يكون الدين بعيدا عنها، إذ فيه مؤشرات كثيرة على التسامح.
يقول تركي الدخيل في مقدمة كتابه الذي بين أيدينا، عن فقدان ثقافة التسامح، والحاجة إليها “لقد دمّر التطرف ما تبقى من إنسانية بهذا العالم، قطع الرؤوس، وتهجير المسيحيين والإيزيديين، واستهداف الأقليات الدينية والمذهبية، والبحث عن مزيد من الضحايا والسبايا.
ويضيف أن كل ذلك حدث ضمن إهمالٍ تاريخي لدينا في ثقافتنا لموضوع التسامح، هذا مع وجود نماذج تاريخية يمكن الانطلاق منها، مثل وثيقة النبي عليه الصلاة والسلام مع مسيحيي نجران، وكتاب أبي بكر في أخلاق الفروسية أثناء القتال، وعهدة عمر، ونموذج تعامل المسلمين والمسيحيين في مصر والشام، كل ذلك الضوء اندرس وانتهى بفعل هيمنة الثقافة المتطرفة، وطمس معالم مضيئة من التراث”.
تضمن كتاب “التسامح.. زينة الدنيا والدّين” نحو 250 صفحة، في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، تناول فيها المؤلف الحوادث التي أشارت إلى محطات التسامح في التاريخ والحاضر، يُضاف له ملحق يتضمن خُلاصة لكتاب “التسامح في عصر الإصلاح” لمؤلفه جوزيف لوكير (1895-1988)، أستاذ العلوم الكنسية في الجامعة الكاثوليكية بباريس، والذي ترجمه جورج ناصيف، وقد شغل ذلك الفصل الثالث من الكتاب.
احتوى الفصل الأول على نحو عشرين فقرة، منها: موجز لتاريخ التسامح عند العرب، مقاومة التسامح، سلاح مؤيد للتسامح، من أدب الدعوة إلى التسامح، كيف قرأنا تاريخ التسامح وشجرة النسب، كيف فهمنا ثمن التسامح، كيف قرأنا تاريخ التسامح، لماذا غاب التسامح إذن، التسامح في الشعر العربي، وفي الشعر حروب على التسامح، التسامح بين الفكر والسلوك، لماذا يكون الحوار وسيلة للتسامح.
أما الفصل الثاني فتضمن: أفكار جون لوك وفولتير، ونحن، ومواقف أثمرت الأفكار، استعرضها المؤلف في الفقرات التالية: مفهوم التسامح، نشأة المفهوم، الظرف التاريخي لرسالة جون لوك، رسالة فولتير: صدمة الإعدام شرارة التأليف، تطور المفهوم، ما بعد لوك وفولتير تشققات التسامح وطبقاته العليا، التسامح بوصفه قيمة حضارية، المحاولات المعاصرة: الدين المرأة وطعام الآخرين، مواقف معاصرة، التسامح حسب ثقافة الفقهاء، التسامح وتقبل عادات البشر، في الدين والمجتمع: ثقافة التسامح والمرأة، إشاعة التسامح تُنير الظلام.
الإيمان بالاختلاف
كان الفصل الأخير متعلقا بكتاب “تاريخ التسامح في عصر الإصلاح”، لخصه مؤلف كتاب “التسامح.. زينة الدّنيا والدّين” بعد قراءة معمقة له، جاء فيه: محتوى الكتاب، دراسات سابقة، لماذا عصر الإصلاح؟ معنى التسامح في الكتاب، العهد الجديد، مرسوم ميلانو، الكنيسة والدّولة، العصر الوسيط، دور المثقف، تمرد لوثر على الكاثوليكية، سياسة الحوارات، إلغاء طابع الدولة المذهبي، إعدام سرفيه، أحابيل الشيطان، ملك بولونيا باتوري، تأسيس الإنجليكانية البروتستانية.
مواد الكتاب غنية في دراسة تجارب التسامح
أتت مواد الكتاب غنية في دراسة تجارب التسامح، في تاريخ العرب والأجانب. وجمع المؤلف مادة نادرة من التراث العربي، ليست بالأمر الهين، وربَّما يقول قائل وما فائدة بيت شعر أو ممارسة موقف أو نص منثور، انتشلها المؤلف من بين الكتب؟! وهل فيها فائدة لثقافة التسامح؟ نقول: المسألة ليست بحجم ما كُتب أو قيل، لكن بيت الشعر الذي انتقاه المؤلف من الدواوين والقصص، لم يكن نصا أو بيتا يتيما، إنما لا بد أنه قيل عن تجربة وممارسة لصاحبه، فهل البيت التالي الذي جعله المؤلف في فاتحة كتابه “نحن بما عندنا وأنت بما/ عنك راضٍ والرأي مختلف”، يتحول إلى وهم أو اختراع، أم أنه قيل في فترة زمنية ومكان محدد، أٌرخ له في القرن الرابع الميلادي، وهل شجب الحرب، مثلما ورد في معلقة زهير بن أبي سُلمى، وهو المخضرم بين قبل الإسلام وبعده، أفكار قد طويت، أم أنها تجربة تاريخية بحاجة إلى ظهور من جديد، فمثلما يفعل المتعصبون على إظهار النصوص التي تسند تعصبهم، لماذا لا يعمل أهل التسامح على إظهار النصوص التي تدعم جهودهم؟!
يقول المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب، مبرزا اعتبار التسامح ثقافة وحضارة إنسانية، وأن التسامح ليس بغلبة الأكثرية على الأقلية، على طريقة “العفو عند المقدرة”، إنما هو ثقافة وحضارة، التسامح واحد لا يُجزّأ، ولا يختلف من مجال إلى آخر، “قيل التَّسامح ثقافة وحضارة إنسانية، يشعر به النَّاس في كل مجالات حياتهم، ليس هناك متسامح بين الأديان ومتشدد بين القبائل مثلا، أو متسامح في المذاهب متشدد في الأديان، متشدد في معاملة النساء منفتح مع الأعراق أو القوميات، ما نود قوله: إن التسامح المطلوب سيشكل بنية ثقافية وحضارية تدخل في كل تفاصيل العلاقات الاجتماعية، بمعنى قبول الآخر كما هو، لا كما أنا أُريد”.
جاء كتاب “التسامح.. زينة الدنيا والدين”، والصادر عن دار مدارك هذا العام (2019)، مصادفا لمناسبة تاريخية بدولة الإمارات المتحدة، باعتبار هذا العام عام التسامح.
وبين هذا المرجع الجديد ضمن فصله الثالث، أن التجربة الأوروبية في تكريس ثقافة التسامح، ليست بعيدة عن ظروفنا، حيث وجود التعصب الديني والعنف الديني، وقد تضافرت الجهود بين المثقفين والملوك، بعدما أخذ المجتمع يبحث عن بديل للحروب الدينية والتطرف، عرضها المؤلف في كتابه مع الربط بينها وبين ما تزينت به الأجيال العربية الماضية وتوشحت بأدب التسامح المتفرق في غياهب الكتب العربية، فلو جُمع لكان مانعا روحيا ضد التطرف، وسندا للسلم والحوار، وهل هناك أصدق وأجمل مما قاله الشاعر العربي القديم “السّلمُ تأخذ منها ما رضيت به/ والحَرب يكفيك مِن أنفاسها جُرعُ”.
وهذا البيت هو ما استهل به المؤلف كتابه إضافة إلى البيت المشجع على الحوار وقبول الآخر، إنه شعر من جوهر الحياة وغير منزل عنها، هذا ما نفهمه من كتاب تركي الدّخيل.
وختم الكاتب السعودي تركي الدخيل كتابه بالقول “نحتاج أن نُقدر المساحات الواسعة، التي انفتحت أمام دُعاة التَّسامح، وأن نُقيِّم صرحنا المتسامح، على أساس متين، من الإيمان بأن الاختلاف يُقوِّينا، وإدارته بالاعتراف، تمنحنا فرصة أفضل للعيش، وتورث أمثلة ملهمة للأجيال”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق