دمشق - سامر محمد إسماعيل
أنهت فرقة المسرح القومي في اللاذقية تقديم عروض عملها الجديد «طقوس الأبيض- مسرح الحمراء» ليكون نص الكاتب العراقي محمود أبو العباس بمثابة مادة أدبية غير قابلة للمسرحة على يدي المخرج هاشم غزال، والذي حاول المناورة في هذه التجربة عبر قصة حفّار قبور وزوجته التي تعمل قابلة قانونية، مستفيداً من المسافة بين المهد واللحد، بين الولادة والموت في مهنة الزوجين اللذين مات كل أبنائهما، إلى اللحظة التي تموت إحدى النساء أثناء الوضع، ويتنكر الأب لطفل من زوجته الميتة، فيقوم الزوجان بتبني هذا الطفل كثواب رباني على فقدانهما الأبوّة.
قصة تبدو ذات قريحة مفتوحة على التناقض، لكنها افتقدت لمعالجة فنية قادرة على نقل الصيغة الأدبية الخرساء إلى ما يسمى «نص الخشبة»، أضف إلى الخطابية المبالغ بها، والمباشرة في طرح أفكار كل من الحانوتي وزوجته اللذين تبديا كشاعرين على منبر، لا على خشبة مسرح. أسلوب عانى من «الالتصاق بالنص» كما يصفه أنطونان آرتو، مكتفياً في استظهار الأمثولة والعبرة والعظات التي ساقها «طقوس الأبيض» كأبيات شعرية افتتح بها المخرج «غزال» مناحة مزدوجة بين شخصيتي العرض الرئيستين وجوقة غنائية تمر وفق ذرى درامية محددة في عمق الخشبة.
الفهم السطحي لمفهوم الإضاءة والسينوغرافيا ككل عكس بدوره مناخاً قاتماً وتقليدياً عن فكرة الموت، مكتفياً بنقلات حادة بين ما يشبه التماعات حمراء وزرقاء وصفراء وأخرى خضراء، تناظرت أيضاً مع خرق بيضاء تم نشرها في فضاء المسرح، ليكون الطقس هنا بلون الكفن، والذي أتى كإشارة مباشرة وممجوجة هو الآخر عن الفهم السائد والمتداول للموت. أضف إلى ذلك تلك الموسيقى الجنائزية ذات النبرة المليودرامية التي عكفت الجوقة الغنائية المتحركة بثقل من يمين إلى سار الخشبة، والتي ساهمت إلى حدٍ كبير في تعميق كليشيهات أداء متفاصحة وخشبية للتوجه العام في أداء الممثلين.
العرض الذي أنتجته «مديرية المسارح والموسيقى» ظل بارداً وبعيداً من تجارب مسرحية لافتة كان المسرح القومي قد قدمها في سنوات الحرب، ما يجعل من الصعب تصنيف هذا العمل في خانة الأعمال المحترفة، لا سيما التي قدمتها فرقة المسرح القومي باللاذقية من مثل: «أوبرا الشحادين» لمخرجها سليمان شريبا.
بالمقابل، يعكس «طقوس الأبيض» طبيعة مسرح الهواة في سورية، والذي ينحو إلى شعائرية مختلقة، تظن المسرح مكاناً للكوابيس والاشتغال على فخامة النبرة وغرابتها في اللفظ والإلقاء، بعيداً عن واقعية الحدث على المنصة، بل بالتأكيد على أجواء لشخصيات شبحية ذات بُعد أحادي في الأداء الذي يكتنفه الرقص الطقوسي والغناء الأوبرالي، ففكرة القائمين على هذا النوع من المسرح تبدو قديمة وبالية، ومستقاة من نظرة أدبية جافة تبتعد من إنتاج بنية درامية، ذات صراع مسرحي مشوّق ولاهث بإيقاعه وحلوله الجمالية المبتكرة.
على رغم كل ذلك تبدو المساحة المعطاة لمخرج آتٍ من فرق المسرح الجامعي جيدة وشجاعة، لكنها وعلى رغم المراس الطويل، بدت قاصرة عن الإلمام بتطورات المسرح السوري اليوم، فالفن ليس ماذا نقول، بل كيف نقول؟ والأفكار الكبيرة في العرض ظلت مجرد أفكار كبيرة، من دون حتى أن تخضع لصنعة ودِربة تنقلها من حيز التنظير الفكري، إلى حيز الحلول الإخراجية والدهشة المتوقعة من عرض زائر لمسارح عاصمة البلاد.
على مستوى آخر عكست «طقوس الأبيض» بوناً شاسعاً بين مسارح الأطراف والريبرتوار الدمشقي، حيث يزخر هذا الأخير بمختبرات متقدمة ساعدت الحرب على انتزاع مكانته على رغم التمويل المحدود له، إلا أن سنوات الأزمة الدامية أدخلته في امتحان فعلي لقدرات وإمكانات كتّابه ومخرجيه وممثليه، مغايراً بذلك وقار المسارح القديمة، وطاوياً صفحة ما كان يسمى في سورية «المسرح الجاد» أو «المسرح العابس» والذي أعاد «طقوس الأبيض» ذكرياته وتجهمه بقوة إلى ذاكرة المتفرجين الجدد!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق