بيروت - كمال حنا
لعلّه من إبــــداع الفنّ الرَوائي أن يأخذ الكاتبُ القارئ عبر رحلة غامضة على مرّ الصّفــــحات إلى نهاية تكشف وقائع الحبكة القصصيّة في السّطر الأخير، فيتعلقَ القارئ بالمضمون حتى رمَق الكلمة الخاتمة... وربّما إلى ما بعدها حين تُسدِلُ الرّوايةُ ستارَتَها على ذكرى المتابعة المشوّقة للفصول المتعاقبة، والأسئلة التي قد لا تنتهي عن تسلسل الأحداث ونتائجها.
والأكثر إبداعاً في رواية «جريمة حُبّ غامضة» للكاتب سامي معروف الذي امتلك جرأة نشرها في حلقاتٍ على مُدوِّنتِه الخاصّة على الإنترنت samymaarouf.com، ورَبَطها بمواقع التواصل الاجتماعيّ من أجل استهداف الشريحة الأكبر من المتابعين، ورصدِ تفاعلاتهم والتّجاوب معها. وكلّ وقائع السَّرد القصصي الذي يتناوله الكاتب من خلال «أوراق» يورد بعضُها معلوماتٍ «حقيقيَّة» عن الشَخصيّات، كما يقول، تحصل في فترةِ الثمانينات من القرن العشرين، أمّا الجريمة فتاريخها 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2015.
وهنا يظلّ القارئ في حيرةٍ من أمرِه وسط تنقل معروف بين أوراق أو فصول «غامضة حقاً»، وتزداد أسئلتُه حول روابط الجريمة ومرتكبيها وأسبابها، فيما يكتفي الكاتب بالإشارة إلى ضَحيَّتَيها، وهما غيث الرّاسي وحبيبته أو عشيقته «السَّرمديّة» إيميه جبّور، مع تعمُّده التّوريَة، وحتى الصّفحات الأخيرة، لجوانبَ عدةٍ من تفاصيل علاقة الحُبّ التي جمَعت بينهما وتطوّراتها في حياتهما.
ومن أجل زيادة تشويق «الأسرار العظمى» للجَريمة الغامضة، يُضيف الكاتب شخصيَّة الابن غير الشَّرعي للشّخصية المحور غيث الرّاسي، ثم يختفي هذا الابن لفصول حتى ينسى القارئ وجوده، ويصبح «نقطة التقاء» لا يمكن التكهُّنُ بها بالجريمة الحَدث.
وأيضاً تزيد الوقفاتُ الفلسفيّة للكاتب أجواءَ غموض الخاتمة المرتقبة، ويتناول في أحدها موضوعَ «الطموح الكابوس» الذي يهدف إلى تحقيق «إنجاز ما» لا يعرف أحد، حتى الصَّفحات الأخيرة، ما هو في حياة غيث الرّاسي. ثم يُمرّر عبارة خاطفة هي «الهرطقة الوجودية التي ستؤدّي به (غيث) إلى 19 تشرين الأول»، فيعبُر منها إلى موضوع الحياة، ويسأل هل هي «مداورة بين الفرَح والألم؟ ويقول لاحقاً: «الحياة أحياناً عنيفة مزاجيَّة عبثيَّة». لكن ما علاقة هذه الوقفات الفلسفيّة في تفصيلاتها باليَوم المشؤوم؟!
وحين تتناول المحطات الفلسفيَّة الخاطفة موضوع الثأر، تظلّ حيرة القارئ قائمة من فصول الجريمة المرتقبة. يقول الكاتب: «قد يكون الحُبُّ أشرَّ ثأر، وأكثر الحُبِّ ثأراً هو حُبُّ المرأة»، وينقل عن الرّوائي أحمد الفخراني قوله: «الانتقام هو المساحة الوحيدة التي لا يمكن التنبُّؤ فيها بمدى خيالِ الإنسان».
حقاً هذا «التنبُّؤ» المفقود هو السِّحر الذي يقودُ نهَمَ القارئ إلى الخاتمة. وربّما لو توافرت الرّواية للقارئ عبر نسخةٍ ورقيّة كاملة لكان التهم الصَّفحات سريعاً إلى الفصل الأخير، لكنّ النشر الإلكتروني «فرمَلَه»، وربّما يكون ذلك أحدَ نقاط قوّة آلية الإنتاج الرّقمي لكتّابِ المستقبل، وأسلوباً مناسباً لتفاعلهم مع قرّائهم، وحبس أنفاسهم حتى اللحظة الأخيرة.
إذاً أيّ امرأةٍ هي وراءَ الانتقام، وأيّ حُبٍّ سيؤدي إلى «حربِ الجهاد» التي تنكشف فصولها الفعليّة في النهاية. إنها الحبكة الفانتازيَّة التي يتحكَّم بها الكاتب معروف ببراعةٍ مطلقة، وهي السّحرُ التي سيحتفظ به القارئ، كما احتفظ بسحر تصوير معروف «الشَرّ المُمتع» في شخصية البطل «المشَّوه بالعُقد النفسيّة» في روايتِه السابقة «الفنّ الأسود».
لا شكّ في أن «جريمة حُبّ غامضة» و«الفنّ الأسود» هما العلامتان الفارقتان في المسيرة الأدبيّة للكاتب معروف التي تتضمّن أيضاً روايتي «رقصات التّيه» وأغانيات» وديوان «قبور الشَّهوة». فرواية «الفنّ الأسود» تعكسُ لوناً فاقِعاً عن شخصيّة «شريرة» تنقل الواقع «الانحرافيّ» للسياسة اللبنانية. أمّا رواية «جريمة حُبّ غامضة» فتعكسُ تزايدَ الحرفيّة السَّردية للكاتب، وبراعتَه في منح الجَريمة الغموضَ الجذّاب الذي تحتاجه لبلوغ ذروةِ الإثارة والتشويق، والتحكم بكل فصولها وحتى بالقارئ، وهو ما أجاده.
كما تعكس «جريمة حُبّ غامضة» مهارة معروف في بناء سيناريوات للأحداث وترتيب المواقف بطريقةٍ تجذب القارئ إلى المتابعة بحرارة وطلب المزيد.
ومن البديهي القول أنَّ النّتاجَ الأدبيّ لمعروف لا يخرجُ أبداً عن إطار الواقع، وينقلُ دائماً «الشَّواغل الغريزيَّة» لعالم الأحياء بمختلف جوانبها، وبلا أيّ قيود مع التقاط «اللحظات المَفصليَّة التاريخيَّة» في حياة أبطاله... لحظات التغيير التي يعيشها كلّ إنسان سواء في طريق السّعادة أو البؤس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق