قراءة في كتاب “نحو ثورة في ثقافتنا” بقلم: أ.د. مها خيربك ناصر (*)

. . ليست هناك تعليقات:





قراءة في كتاب “نحو ثورة في ثقافتنا” بقلم: أ.د. مها خيربك ناصر (*)

في واقع عربيّ مأزوم علميًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا تبقى الثقافة فضاء رحمة تلوذ به “أقلية من الشموليين الذين يتمتعون بسعة الاطلاع …والذين تتجنبهم السلطة ويتأفف منهم الأفراد وتخافهم الشركات”[1]، لأنّهم مارسوا حضورهم الإنسانيّ فعلاً ثقافيًّا، والثقافة في جوهرها فعل حياة، به تبتدع ذاتها من ذاتها، وهي طاقة خلق وتجديد وتخصيب لا يفعّلها إلاّ حراك فكريّ غايته التأسيس لنهضة حضاريّة تساعد على التحرر من الغريزة الثقافيّة، ومن جمودية التلقي.

تتمحور مهمة الثقافة الحقيقيّة في نقطة مركزيّة تختزل قدرة الثقافة على منح الحياة الهدف والمعنى، وتمتلك طاقة تحريض تحثّ أبناء الحياة على صياغة معارف جديدة ترتبط بالأصل بقدر ما تتجاوزه، وذلك وفق أصول قيميّة ومهارات خلق وإبداع تصنع الفعل الثقافيّ الهادف إلى التهذيب الفكريّ الذي يجعل من الحريّة الفكريّة قدرًا، وبالحريّة تستطيع الذات أن تُدرك ذاتها، وبالإدراك يتشكّل الوعي، وبالوعي يُقدح الكمون المعرفيّ الذي يخلخل الصنميّة الفكريّة ويهزّ سكونية الإعادة والتكرار ويضعف الشعور بالانبهار والانبطاح فتعيد الذات صياغة ذاتها على أسس جديدة قابلة للتفاعل والتوليد.

بهذه الرؤيا يمكن التأسيس لفعل ثقافيّ يكون نواة لثورة ثقافيّة عربيّة يسعى المفكّر والأديب نزالر دندش إلى تحديد مساراتها انظلاقًا من أصول معجميّة واصطلاحيّة وفلسفيّة وتاريخيّة ودينيّة وحضاريّة خلصت إلى الربط بين الحضارة والثقافة والعلم، فرأى الكاتب أنّ” لدراسة الثقافة أهمية أكبر في أثناء التعرّف إلى الحياة الاجتماعيّة وتفسيرها وفهما”[2].

يطرح الدكتور دندش في كتابه” نحو ثورة في ثقافتنا “عددًا من الإشكاليات التي أنتجت عددًا من الفرضيات، وقدّم محاولة رائدة غايتها إثبات الفرضية أو نقضها، وذلك بالاستناد إلى معطيات وحقائق ومقولات أنتجها الفكر الإنسانيّ، فاتسمت الإجابات التي تمّ التوصّل إليها بمنطق رياضي/ فيزيائيّ يعكس طبيعة تفكير الباحث وعلاقته بالعلوم وإيمانه بدور العلم في خلق الثقافات وتعزيز الحريّات، غير أن الباحث ترك باب السؤال مفتوحًا على عدد من الاشكاليات ربّما كان من أهمها اعتبار” الثقافة جزءًا من الحضارة” ، والقول إنّ “العقل الإنسانيّ جوهر الحضارة”[3]، فهل الحضارة تنجب الثقافة أم الثقافة تشارك في صنع الحضارة؟ وهل العقل الإنسانيّ جوهر الحضارة أم الحضارة هي من تجليات العقل الإنسانيّ؟


نعتقد أن الحضارة نتاج تراكم ثقافيّ، فلا حضارة من دون تثقيف عقليّ، ولا ثقافة من دون مناخ حضاريّ يصون الحريات الثقافيّة، فالعلاقة ، إذًا، علاقة جدلية تتقاطع نتائجها ولا تتوازى، وربّما نستطيع تصوير المنتج الحضاري خطًا أفقيًّا لكونه عالميّا كونيًا، والمنتج الثقافيّ خطًا عموديًّا تتقاطع محاوره المتنوعة في أكثر من نقطة مع المحور الحضاريّ، لأنّ الثقافات تتنوّع والحضارة في مفهومها الكلي الشمولي تتجانس وتتشابه وربّما تتماثل من حيث الفعل الحضاريّ. ولذلك ذهب الكاتب إلى الاقرار بالعجز عن ردم الهوة بين تطوّر الحضارة الماديّة وبين الثقافة الروحيّة، فقال:”خلقت الأنظمة الاجتماعيّة والسياسة المعاصرة هوة كبيرة بين تطور الحضارة الماديّة وبين الثقافة الروحيّة وتبدو هذه الأنظمة بتركيبتها الحالية عاجزة عن ردم الهوة وعن تخطيها فهناك أزمة في المثل العليا للمجتمعات البشريّة”[4]، وهذه الأزمة ، في رأينا، تزداد تعقيدًا نتيجة غياب المعايير الثقافيّة الضامنة حريّة الإنسان والمحرّضة على تنشيط عملية الوعي الفرديّ والجمعيّ.

مما لاشكّ فيه أنّ الخطاب المنتج هو خطاب يرشح بالمعارف والإشكاليات ، وكتاب “نحو ثورة قي ثقافتنا” يتمايز بكم من المعارف التاريخيّة والفلسفيّة واللغويّة والدينيّة والحضاريّة، وبأسلوب أدبيّ/ علميّ يحيل القارئ على طرح الأسئلة، وعلى البحث عن أجوبة بثها الكاتب في سياقات لغويّة منطقيّة، فربّ سؤال أنتجه عرض ما لواقع ثقافيّ، تجد جوابه في ما يأتي من طروحات وأفكار وآراء، فكان بذلك الأستاذ الباحث عن النظريّة وتطبيقاتها، وخير مثال على ذلك كلامه على أنّ الثقافة شيء متوارث تنتقل من جيل إلى جيل كما تنتقل الجينات داخل النوع الواحد[5]. وهذا كلام يحيل المتلقي على طرح سؤال كان الجواب عنه في الكشف عن موقف ثقافيّ يضمر قدرة الإنسان على تجاوز الموروث أوتطويره:”إن ّالإنسان كائن ثقافي يطوّر ثقافته على الدوام ويتطور معها”[6].

ربط نزار دندش الثقافة بأصل يسمح بالتخطي وبالتجاوز لكونها مرتبطة بالعلم ،والعلم في حركة أمامية لا تعرف السكون، و”الثقافة من دون علم لاقيمة لها والعلم متطور، فقال:”يشكّل العلم في جانبه المعرفي جزءًا متناميًا من ثقافة الإنسان” [7]، لذلك رفض أيّ نظام تعليمي لايعزّز دور الثقافة، وانتقد النظام التعليميّ الذي يقدّم ” جملة من المعلومات من دون ربطها بالتجارب الحياتيّة” [8]، هذا النظام الذي ينأى بالتعليم عن مهمته الثقافيّة.

قدّم الكتاب توصيفًا علميًّا دقيقًا لتاريخ الحضور الثقافيّ، وأسند دورًا رئيسًا للأديان شريطة أن يكون هذا الدور مؤسسا على فهم المجتمع جوهر الدين، لأنّ” فهمنا للأديان والتسلّح بثقافة دينيّة صحيحة يوفر سلاحًا ثقافيًّا ضروريًّا للإنسان” [9]، والدليل على ذلك تعاليم الدين الإسلاميّ التي ساعدت على تطوير وعي العرب وعلى فهم التاريح وعلى تثبيت شخصيتهم ما منحهم التمايز”[10] لأنّ الدين الاسلاميّ حضّ على البحث عن المعرفة وعلى التعلم والتعليم، فكان العلم نورًا أضاء فضاءات الحضارة العربيّة/ الاسلاميّة/ الأمميّة. هذا النور العلميّ الذي نحتاجه للخروج من مستنقع التخلف، وفق ما ذهب إليه الدكتور دندش، فقال:” لا خروج لنا من مستنقع التخلف إلا على سفينة العلم وما دامت مشاريعنا النهضوية تستبعد دور العلم والعلماء فسوف نبقى على تخلفنا وعبثًا نقنع أنفسنا بأننا نشجع العلم”[11]، لأنّ الواقع الثقافيّ العربيّ، في رأيه، يشي بأنّنا نغرق في خضم من السلبيات الثقافيّة التي تقف عائقًا أمام تقدّم المجتمعات العربيّة لكون هذه الثقافة ممزقة ونسيجها الداخلي مخترق ومهجّن وممزق[12]، لأنّ هذا الواقع يظهر غياب ماهية الانتماء إلى أفق فكريّ يضبط القيم وأشكال العلاقات وآليات التحوّل والتحويل والخلاص مشروط بالقدرة والإرادة الهادفة إلى إزالة ” الغبار عن عقولنا وتفتح الطريق أمامها لكي ننتج علما ونصنع معرفة”[13]، وبالرغبة والإرادة يكون العمل على إقامة نقد ذاتي غايته الكشف عن الاهتراءات والثغرات في أنساق الثقافة العربيّة والتعليميّة والمناهج التربويّة ، ومن ثمّ يكون السعي إلى صياغة ثقافة جديدة قوامها منطق تحليلي قادر على خلخلة الصنمية الفكرية ومن ثم تفعيل ما هو قابل للحياة بفعل الصيرورة فتتم عملية تلاقح توليدي غايته تفعيل الخاص الثقافي مع المكونات الثقافيّة العالمية.

استنادًا إلى فرضيات ومعطيات ثقافيّة يرفض نزار دندش ثقافة لاتعترف بالجوانب الإنسانيّة ، ويطالب بثقافة اصلاحات تلامس حدو ثورة تولد من رحم حريّة تنتج وعيًا بضرورة الحصول على معرفة علميّة قوامها التفكير العلمي، والمحافظة على البيئة وصون الحريات وحماية الديمقراطيّة وحقوق المرأة واحترام القانون وخلق نظام تعليمي عصري وتحقيق الاندماح الوطني وتوظيف وسائل الاعلام لنشر الثقافة وتشجيع الحوار الثقافي فتتفجر الثورة في ثقافتنا، وهذه الثورة تحتاج قبل كل شيء إلى وعي يفتح أبواب الشك والسؤال.


نعتقد أنّ هذه الثورة تبدأ من أسئلة تختزل الأزمة الثقافيّة أو تجيب عن حلول ممكنة، قيبدأ الإنسان العربيّ بطرح أسئلة جوهريّة تهدف إلى التعرّف إلى ذاته أولاً ومن ثم إلى الآخر المغاير وإلى العلاقة بهذا الآخر. فهل العلاقة علاقة تفاعل أم علاقة إلغاء ؟ وهل العلاقة مؤسسة على الحوار أم القبول والتبعيّة؟

يجسّد إدراك ماهية العلاقة مع الآخر جوهر التحضير لثورة حقيقيّة في ثقافتنا العربيّة المعاصرة، هذه الثقافة المأزومة والتي فرضت على المثقف الحقيقيّ رهبنةً في صومعة اغترابه وغربته، فسعى إلى غزل رغباته المعرفيّة مهارات عبادة في فضاء إنسانيّ منزّه عن التبعيّة والتعصب والتعنت والقهر والتكبّر والإقصاء والانبطاحيّة والهرولة وراء جوائز لاتخضع لمعايير علميّة أو أدبيّة أو ثقافيّة.

حااول نزار دندش أن يحرّك مستنقع ما يُسمى بالثقافة، فأثار الأسئلة الموجعة، وفتح الجراح على قيح مزمن، فربّ ثورة تتفجر من رحم الآلام. فليكن كتابك ياصديقيّ نقطة مضيئة في فضائنا العربيّ، وليكن ناقوس حريّة يعلن يقظة الوعي العربيّ، فتتضافر جهود الأحرار من أبناء هذه الأمّة على ابتكار منظومة ثقافيّة تهدف إلى فرض واقع حركيّ جديد وقادر على تفعيل التواصل الفكريّ والثقافيّ، ومن ثم يكون التشجيع على استنباط نظريات علمية تفتح مجال البحث العلميّ أمام الأجيال العربيّة، ما يساعد على تخطي المألوف وتجاوز أنساقه والتأسيس لمستقبل عربيّ يستطيع محاصرة الاجتياح وتحويله إلى صدمة تنبّه إلى مخاطر الانهيار، وتوقظ الوعي الجمعيّ الموسوم بحريّة العقل الفعّال والقادر على تحفيز الطاقات و تفجير سكونية الإبداع العربي، فتقوى المناعة الذاتية ويتحقق التحرّر من هيمنة الآخر الداخليّ والخارجيّ، ويتم التخلّص من الغزو الفكريّ، ومن الانتان الثقافيّ، فيمارس المفكّر العربيّ حضوره الإنساني الثقافيّ الفاعل بوعيّ وحريّة ومعرفة وثقة بالنفس. فهل سيأتي هذا اليوم؟ ربّما! من يدري!

*******

(*)الجامعة اللبنانيّة- اتحاد الكتاب اللبنانيين

هوامش

(*) نزار دندش، نحو ثورة في ثقافتنا،دار الفارابي، بيروت لبنان، ط1، 2014، ص123.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة