الأغنية الشعبية هي الأغنية التي تؤدي وظيفة اجتماعية: تثبيت القيم والمعتقدات والمعارف الشعبية ومنظومة الأفكار الاعتقادية، وتقديم خلاصة تجارب الخير والشر التي تُسلمها الأجيال لبعضها البعض في دورة الحياة (الميلاد- الزواج- الموت) أو أغاني السمر أو المناسبات (الأعياد الدينية، والقومية كعيد شم النسيم).
ويقول الأدب الشعبي إن هذه الأغاني طويلة العمر، ومجهولة المؤلف، وتُؤدى بشكل جماعي، ونصوصها الأدبية (الأشعار والأناشيد) وألحانها، مجهولة المُبدع أيضًا، وهي تنتقل بشكل شفاهي وتتسم بالمرونة (قابلة للتعديل بالحذف أو الإضافة في الكلمات- اللحن- الأداء).
وكما يخرج المصريون على اختلاف انحيازاتهم العقائدية إلى الحدائق والمتنزهات الخضراء، يرقصون ويبتهجون بيوم شم النسيم، فإن هذه الثقافة (نمط السلوك) متوارثة منذ آلاف السنين. ثقافة موجودة على جدران معابد طيبة :””إذا لم تستيقظ مبكرًا، وتتريّض، تبقى خمولا إلى الربيع القادم”.
العبارة الأخيرة، تُثبت الكادر على مشهد فني كان يتكرر كل عام في زمن المصريين القدماء: بروفات على حركات راقصة. تدريب على تلاوة أناشيد ومواويل تربوية وأغان شعبية، كلها مرتبطة بعيد شم النسيم (فصل الخلق والحصاد). يتبادل الفلاحون المعايدات ويجهزون زهور اللوتس كي يقدموها لزوجاتهم في اليوم التالي (صبيحة العيد). ينطلق مهرجان الرقص الشعبي بمصاحبة فرق موسيقية تعزف على آلات الهارب والمزمار والناي والشخاشيخ والدفوف. علماء الأركيولوجيا يقولون إن أول أسرة مصرية شاركت في احتفال كهذا، كانت في زمن الأسرة الفرعونية الثالثة (5000 ق.م).
موسيقيو المعابد والقصور الملكية لم يتركوا بصمة كبيرة في فصل الحصاد مقارنة بموسيقيي الشارع (فرقة تتكون من عازفين ومنشدين وراقصات وراقصين، ومؤلفي نصوص أدبية تُلحن وتؤدى في شم النسيم). وكانت هذه الفرق تحصل على الخبز والشعير والخضراوات والجعّة في المقابل (أجور رمزية).
أبرز ما حوته المقبرة 60 في مدينة طيبة القديمة، وصف لإحدى حفلات الرقص الشعبي (الدولة الوسطى)، يقدمون خلاله حركات متوالية بالأيدي والأقدام ويستخدمون في ذلك آلات وترية ومزمار مزدوج وشخاشيخ. وتذهب النساء إلى الحقول لتقدم رقصات مُبهجة للزوج الذي يؤدي عملا شاقًا (جمع المحصول). وكانت الموسيقى المُصاحبة للرقص الشعبي في الحقل تتميز بالإيقاعات البطيئة، حيث تُفسح المجال للنسوة اللائي يفضلن التصفيق بالأكف بدلا من هزّ كل الجسد. وكنّ يرتدين الفساتين الكتانية الطويلة الفضفاضة الشفافة وأحيانا أحزمة ضيقة مزخرفة بألوان زاهية تميل إلى اللون الأخضر والذهبي.
المغني الشعبي ببساطة شديدة، هو فكرة، خرجت من رحم المعابد بعد أن زادت حاجتها على عدد الموسيقيين الذين يتولون (بإشراف من كهنة عصر الدولة الحديثة) تحديد آداب وشروط الغناء خلال إقامة الشعائر الدينية. هذا الظرف فتح الباب أمام فلاحين مصريين كُثُر إلى تعلم العزف والغناء وتكوين فرق موسيقية تتكسب رزقها من المشاركة في الاحتفالات القومية، وقد نجحت هذه الفرق في تأليف نصوص أدبية لكل عيد وفصل من الفصول الثلاثة ولكل إله ولكل شهر. وفي هذه الفترة انتشرت صيغ متنوعة من الغناء: الغناء الفردي والغناء الجماعي والغناء الثنائي (الديالوج)، وكان هناك الغناء المبني على المقابلات بين الأصوات الفردية والجماعية.
جدول توضيحي يُبرز أشهر الموسيقيين والمُنشدين في عصر الدولة القديمة والوسطى وعصر الإمبراطورية وصولا إلى الأسرة
وقد انتشرت الأغاني الشعبية التي تقدم في فصل الحصاد مع تبني العمال في مجتمعات مصر القديمة النصوص الأدبية التي لازمتهم في الحقول وعلى ضفاف النيل، حتى في فترات الراحة (وقت العمل) كان المصري يؤدي بعض الرقصات الخفيفة التي ترمز إلى معنى ديني وعقائدي وبالطبع للحفاظ على لياقته البدنية أثناء العمل.
صورة من إحدى الرقصات الجماعية بالأكف
ورقصة الكف كانت الأكثر تميزا بين مجموعة رقصات شعبية في موسم الحصاد. ويعتمد تصميم الرقصة على بناء حركي متوالي: في بداية الرقصة يقف مجموعة من الرجال على شكل قوس ويتراوح عددهم من سبعة وعشرة أفراد، على الجانب الأيسر من هذه المجموعة، يقف أحد المغنيين وعلى الجانب الآخر يقف أمامهم بقليل رجل يُمسك بدف.
ويختلف تصفيق الراقصين، فقد يقوم كل منهم بتصفيقة واحدة منتظمة أو بتصفيقتين، وعند الرقص ينثني الجزء العلوي للجسم قليلا إلى الأمام. وتكون الرجلان مفتوحتين وتتقدم إحداهما قليلا للأمام بينما تكون الركبتان منثنيتين قليلا وتُرفع القدم الأمامية ويُدق بها على الأرض مع كل تصفيقة.
وفي هذا الوضع يحمل الراقص ثقل جسمه على الرجل الأخرى (الخلفية)، ولكن هذا الوضع لا يدوم كثيرا، إذ سرعان ما يتغير عندما تتحرك المجموعة جهة اليمين وجهة اليسار على الجانبين.
وفي عصر الدولة الحديثة كانت النقوش الخاصة بالمناظر الموسيقية أكثر وضوحًا على جدران المقابر، وهي تشتمل على مناظر تخص فلاحين يُمسكون قبضة مناجلهم وفلاحين آخرين يعزفون على آلاتهم الموسيقية، فيما تشارك مجموعة أخرى بالرقص مع مجموعات المُنشدين أثناء العمل شكرًا لآلهة الخير والنماء.
مغني شعبي- الدولة القديمة
وأسلوب الغناء الشعبي في مصر القديمة ينتمي إلى الغناء المنظوم، الذي نتج عنه ظهور رقصة التحطيب القديمة. فهذه أغنية تؤدّى في وقت الحصاد من قِبل عاملين: الأول اسمه بابري والثاني اسمه ونسو على النحو التالي:
” بابري: أسرع في العمل يا صديقي، ودعنا ننهيه في وقت جيد.
ونسو: الآن سوف أؤدي عملي بشكل أحسن من أجل الشرف.
بابري وونسو: يجب أن نقضي كل اليوم في حمل الشعير والذرة البيضاء كي نملأ الأجران بالغلال وسوف نضعها في الخزائن.. دعنا نُسرع في الذهاب، ويجب أن تكون قلوبنا مصنوعة من النحاس.
بابري: نحن نُسرع. ولا نخاف من حقول الذرة. إنها طيبة جدًا.”
ولأن المصريين كانوا يحتفلون معظم أشهر فصل الحصاد (شمو) ألّف شعراء أغان للنيل: الإله المعبود “حعبي”. هذا النوع من الشعر أُُطلق عليه اسم “الأغاني الوصفية” أو التربوية التي تعدد منافع النيل وتحترمه لأنه الإله الوحيد الذي لم تكن له معابد خاصة أو كهنة يقومون على خدمته مثل باقي الآلهة، وكان الفلاحون والعمال في مصر القديمة يرتلون له هذا النشيد البسيط:
“الحمد لك يا نيل، يا من يخرج من الأرض، ويأتي ليغذي مصر، يا ذا الطبيعة المخيفة، ظلام في وضح النهار. إنه هو الذي يصنع الشعير ويخلق القمح وبذلك تتمكن المعابد من إقامة احتفالاتها، رب الأسماك، وهو الذي يجعل طيور الماء تطير نحو الجنوب. عندما تفيض يا نيل تُصبح البلاد في فرحة، وكل إنسان في سرور، ويبدأ كل فم يضحك، ويظهر كل سن، يعزف الناس لك على العود، ويغنون لك بأيديهم، ويفرح شبابك، وأطفالك”.
وفي أول أيام شم النسيم كانت تنتشر في المزارع والحقول عدد من آلالات الموسيقية التي ارتبطت بشم النسيم: الصنوج والصلاصل والعود والكينارة، وكان الأطفال يشكلون دوائر مع أمهاتهم ويرقصون وهم ينشدون وراء منشد من فرقة موسيقية محترفة أو وراء الأب الذي يحفظ هو الآخر مجموعة من الأناشيد. وكانت بعض الأسر تركب القوارب وتمتطى ظهر النيل وهم يهللون وينشدون ويرقصون، بينما يرفع الأطفال في مقدمة المراكب الزهور والخس والبيض المنقوش بأمنيات وسلامات للعام الجديد.
_____________________________________________
مراجع استند إليها الكاتب في بناء المقال:
د. خيري الملط، الموسيقى والمجتمع في مصر القديمة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017
د.نادية عبد الحميد الدمرداش، ود.علاء توفيق إبراهيم. مدخل إلى علم الفولكلور: دراسة في الرقص الشعبي. القاهرة،2007.عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.ط1
سوزان محمد عزت. أثر حضارة مصر الفرعونية في الدولة الوسطى والحديثة على التعبير الحركي. دراسة مقارنة. رسالة دكتوراة غير منشورة. الإسكندرية. كلية التربية الرياضية بنات. جامعة الإسكندرية.1994.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق