ليس بين الاستشراق والمركزية علاقة انطباق في المعنى، وإنّما حصل أن كان بينهما تقاطع وتخلّل، فالاستشراق يختصّ بدراسات الشرق، أمّا المركزيّة الأوروبيّة فنزعة شوفينيّة تفسّر «المعجزة» الأوروبية بعوامل الثقافة والدين مثل المسيحيّة أو اليهوديّة – المسيحيّة أو الإثنيّة الهند- أوروبيّة، باعتبار تلك العوامل العلل الأولى والأساس في تفوّق الغرب وفرادته، مقابل الحط من مجتمعات الشرق وتسويغ استعماره. عليه إنّ الاستشراق هو أكثر إنتاج في الفكر الغربي اتصالاً بنا نحن العرب وبمجتمعاتنا وثقافاتنا. ما حدا بالباحث المغربي عبد الإله بلقزيز إلى الاضطلاع بقراءة الكتابات العربية للنظرات الغربية للتراث والتاريخ في المجال العربي الإسلامي، ومقاربة الخطاب النقدي العربي لخطاب الغرب عن الشرق في كتابه «نقد الثقافة الغربية في الاستشراق والمركزيّة الأوروبية» مركز دراسات الوحدة العربية.
عرض بلقزيز موقف النهوضيين العرب من الاستشراق، وما عناه به هؤلاء وكيفيّة تدرّج الخطاب العربي إزاء الثقافة الغربيّة من السجال إلى الاعتراف، ومن التأثر والاستلهام إلى الحوار والنقد، فراى أنّ علاقة النهضويين بالاستشراق مرّت بمحطتين متزامنتين: انبهارية في صورة تلمذة ثقافيّة تامّة، ونقديّة في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر. وقد كان عبد الرحمن بدوي السباق لتعريف الاستشراق مميزاً بين تعريفه السياقي وتعريفه الموسوعي، ومحاوراً له في شكل مباشر، معيداً الاعتبار لرموزه: تقدير من يستحق التقدير من المستشرقين، ونقد من خدم كولونيالياً السُلَط الأوروبية والغربية. وإذا كان بدوي يمثل نقطة مفصلية في هذا التحوّل، إلاّ أنّ أجيال النهضويين الأربعة استوعته في شكل وآخر من جيل البستاني والشدياق والأفغاني وعبده إلى جيل بدوي ومحمود وحوراني مروراً بجيل أنطون وزيدان وجيل عبدالرزاق وحسين.
لكن أنور عبدالملك يبقى أوّل من دشّن ورشة القراءة النقديّة لتراث الاستشراق في دراسته عن أزمة الاستشراق التي شكّلت نصّاً تأسيسيّاً نهلت منه الدراسات العربية أسس نظرتها النقدية، فليس صدفة أن تحظى دراسة عبدالملك بتنويه مستشرقين كبار مثل مكسيم رودنسون وجاك بيرك، وقد ميّز فيها بين الاستشراق الرأسمالي والاستشراق الاشتراكي الذي هو عنده الأكثر موضوعيّة ونزاهة وإنصافاً
أمّا إدوارد سعيد فيميّز بين بلدان ذات مشروع كولونيالي مثل بريطانيا وفرنسا وبلدان لم تنخرط في ذلك المشروع مثل ألمانيا. لكن على الاستشراق أن يؤدي الوظيفة المطلوبة منه في الحالتين، أي دراسة مجتمعات الشرق ليسهّل إدماجها في المصير الأوروبي، وقد اقترنت تاريخيّاً بصعود المشروع الكولونيالي وغزوه القارات الثلاث وبخاصّة آسيا.
بيّن سعيد ما في رؤى المستشرقين إلى الشرق من مغالطات وتمثلات لا تاريخيّة بل أسطوريّة تجعل من خطاب الاستشراق خطاب سيطرة يترجم علاقات القوّة بين غرب مسيطر وشرق مسيطَر عليه. لذلك لم يتردد سعيد في التشديد على الطابع السياسي للاستشراق. بما هو علم يخدم السياسة الكولونيالية، إذ «معرفة موضوع ما، هي السيطرة عليه والتحكّم فيه» الأمر الذي جعل سعيد يعتبر علاقة الشرق بالاستشراق كعلاقة العبد بالسيّد.
بالتصدّي للاستشراق نقديّاً رأى بلقزيز في كتاب هشام جعيط عن أوروبا والإسلام نصّاً شاملاً وموسّعاً في نقد المعرفة الأوروبيّة عن الإسلام يغطي العصرين الوسيط والحديث، ويكتسب فرادة علميّة مبكّرة، دان مؤلفه تصورات الأوروبيين النمطيّة القروسطيّة للإسلام والمسلمين كما عبّر عنها شاتوبريان وسواه، فيما أبدى تعاطفه مع أطروحات هيغل وإشبنجلر، وتقديره لرينان على رغم انزلاقه إلى أحكام تبسيطيّة عن الإسلام والعروبة.
يعترف جعيط بأن الاستشراق أنتج مفكرين كباراً لكنّه أصرّ على النيل من أصالة الفكر الإسلامي في المطاف الأخير، فالاختلاف والتفوّق يؤسسان جوهر النظرة الاستشراقيّة الإتنولوجيّة، حتى وإن داخلها الفهم والتعاطف.
وإذا قدم بلقزيز مطالعة في فكر أركون، أشار إلى أنّ هذا المفكر لم يضع تأليفاً خاصّاً في نقد الاستشراق لكنّه من أكثر الباحثين الغربيين في مجال الإسلاميات، ليس في منطلقاتهم السياسية ومخيالهم الديني والصور النمطيّة المتحكمة بوعيهم فحسب، وإنّما في المناهج المطبقّة القاصرة والمتخلّفة التي يستخدمونها، والتي لا تعتمد طرائق البحث الفيلولوجي، وتُحجم عن الانفتاح على مكتسبات العلوم الإنسانيّة المعاصرة، فالجهل بالإسلام في نظر أركون يبدو سائداً في الغرب، ولا أحد يعرف ما هو الإسلام كدين وتاريخ ثقافي وعلمي وفلسفي وروحاني.
أمّا عبدالله العروي فيتفق في رأي المؤلف على الأرضيّة الفكريّة عينها التي يقف عليها المستشرقون، يتقاطع مع قسم كبير منهم في الانتهال من المدرسة الفكرية ذاتها، فهو متعدّد المعارف يلتقي مع الاستشراق في مجال من المجالات لقاء حوار ومناظرة لا لقاء سجال ومناكفة، مؤكّداً أنّ جميع المستشرقين كانوا فيلولوجيين أكثر مّما كانوا مؤرخين حقيقيين، رافضاً اختزاليّة الحضارة في الثقافة، إذ إنّ التحليل الثقافوي يفضي إلى الاختزال والغموض بحيث يمتنع حسبانه في قلب العلوم الإنسانيّة.
بقراءته في فكر سمير أمين وجورج قرم أشار بلقزيز إلى أنّ الحداثة لدى أمين تؤذن بانتصار العقل بحيث يتحوّل إلى إطار مرجعي تشتق منه الرؤى والعقائد والمؤسسات وإلى أنّه ينتقد المركزيّة الأوروبيّة في نظرتها التنميطيّة إلى المسار الخاص الذي تقطعه في تكوّن الأمّة – الدولة – الطبقات، معتبراً أنّ الأصوليات الإسلاميّة المعاصرة ليست مختلفة عن أصوليّة المركزيّة الأوروبيّة. أمّا جورج قرم فقد دعا إلى تحرير العلم من أي نزعة مركزية أو نرجيسية حضاريّة، والخروج من القوقعات المغلقة ايّاً تكن دينيّة أو قوميّة أو ثقافيّة نحو تأسيس كيانية إنسانيّة تعترف فيها كلّ ثقافة وكلّ جماعة قوميّة بالمشترك الإنساني الجامع.
خلاصة القول، إنّ الكتاب تميّز بالشمول والدقة، فضلاً عن مجادلاته العقلانيّة لأطروحات المفكرين الذين اختارهم، بما يجعل منه كتاباً مرجعيّاً في قراءة فكر الاستشراق، يثري الفكر العربي المعاصر. إلا أنّنا نلفت نظر المؤلف إلى أنّ النهضويين العرب من الطهطاوي والشدياق والبستاني إلى المراش وإسحق وأنطون والريحاني، وقفوا موقفاً نقديّاً من الغرب على رغم انبهارهم بإنجازاته الحضاريّة الباهرة. كما نأخذ عليه إغفاله مفكراً نهضويّاً رائداً هو فرنسيس المراش الحلبي الذي تمثّل فكر الحداثة في العمق وأعاد إنتاج قيمه في الفكر العربي الحديث، وقد ساجل فكر المركزيّة الأوروبيّة في مرحلة مبكرة جدّاً سجالاً حادّاً، ومن داخل الحداثة، كاشفاً الخلل الذي اعتور حداثة الغرب ومآلاتها التي تتناقض في الجوهر مع القيم والمبادئ التنويرية التي بشرت بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق