هزيمة المثقفين العرب بقلم : محمد صابر عبيد

. . ليست هناك تعليقات:




منذ أن عرفنا مصطلح "المثقف العضويّ" الذي ابتدعه غرامشي ونحن نتطلّع إلى دور استثنائيّ (محلوم به) للمثقف في العالم العربيّ، وهو ما يثير قلقنا الثقافيّ والمعرفيّ والإنسانيّ على نحو واضح في إمكان تعريف "المثقف العربيّ" وتكوين صورته وبناء نموذجه. وإذا كانت المجتمعات العربية مطلعَ القرن الماضي وربّما حتى منتصفه قد عاشت عصر التنوير العربيّ والنهضة العربية على يد مجموعة من المثقفين العرب الكبار، فإنّ خيبةً كبيرة خيّمتْ علينا وألقت بظلالها على مستقبلنا بعد أن أخفق المثقفون العرب في تطوير منجزات الحقبة التنويرية، وتراجعَ دورهم، وقلّتْ حظوظ الدور الثقافيّ في رقيّ مجتمعاتنا وانتقالها إلى الطور المدنيّ، وصارت الثقافة في أسفل سلّم الأولويات وانحسرتْ قيمتها في المجتمع بإزاء صعود نجم حديثي النعمة ومراهقي الثورجية والعسكرجية والقومجية والإسلامجية وحثالة البشر العاطلين عن الثقافة

انقلبت المقاييس

انقلبت المقاييس الطبيعية ووقع المثقف الحقيقيّ في فخّ الغربة والاغتراب والعزلة والطرد والتهميش والحصار والكآبة. فمن هو هذا المثقف العربيّ إنْ وجد؟ ما قيمته بإزاء ما يحصل في مجتمعاته العربية اليوم من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان واستهانة غير مسبوقة بأرواح البشر وأجسادهم ومصائرهم؟ ما هي وظيفته الثقافية والحضارية والإنسانية الجوهرية؟ ما مدى قوّته وجرأته وبراعته في التدخّل وقلب موازين القوى حين يستدعي الأمر ذلك؟ ما مدى إيمانه بالشعوب التي تبحث عن حقوقها الضائعة المستلبة ومدى ما تستحقّه من كفاح ونضال وتضحية من أجل إنصافها؟ وما مدى إيمانه بالإنسان المقهور المهمّش المطارد المهان وهو يتعرّض لأبشع أنواع القتل والتشريد والتهجير والاستباحة؟ وما هو دوره في حلم إنشاء الدولة المدنية وتشييد ثقافة الحرية والديموقراطية والعدل والتسامح والمساواة؟ ثمّة أسئلةٌ تتناسل أسئلةً في هذا السياق يستحيل لجمها ووقف تدفّقها على مشهد الكتابة ومسرحها....

في أنواع المثقفين

"مثقف السلطة" هو أسوأ نموذج ممكن للمثقف، وهو شاهد الزور الأكثر خطورةً وسوءاً على ما يجري. فالثقافة ليست تحصيلَ ما أمكن من معرفة العلوم والفنون، أو كما يعرّف في الثقافة التقليدية "أن يأخذَ من كلّ علم بطرف"، بل المثقف هو من يحوّل معرفته إلى سلوك؛ سلوك منتج، فاعل، وقادر على إحداث التغيير المطلوب في الوقت المطلوب على طريق الحرية والكرامة والعدل والمدنية والتحضّر. ربّما نحن هنا بحاجة إلى ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"مثقف الشعب"، وهو يتحسّس معاناته ويستثمر ثقافته في سبيل تمثّلها وابتداع علاج حضاريّ مخلّص لها على صعيد المنطق النظريّ والإجراء الميدانيّ؛ مثقف الشعب الذي في وسعه أن يفكّر بعمق وحيوية وثقة ورحابة ليؤسس رؤيتَه النظرية الكلية لبناء مجتمع الحرية والديموقراطية، هذه الرؤية التي يرتبط تصميمها النظريّ بمسارات إجرائية قابلة للتطبيق والتحقّ، في وسعها إحداث التغيير القياسيّ الفعّال، القادر على توطين الرؤية الثقافية وتجذيرها في أرض الواقع، ليس على أساس ردّ الفعل الإنسانيّ على حالة انتهاك حقوقيّ ما، بل على أساس منهج عام في الحياة تتصدّر الثقافةُ والمثقفُ والرؤيةُ الثقافيةُ، نظراً وإجراءً، قمّةَ الهرم فيه. ثمّة "مثقف الذات" وهو منْ يسخّر اشتغاله في حقل الإنتاج الثقافيّ بطريقة أنانية تخدم ذاته الفردية في أعلى حالات تذوّتها فقط، حتى وإنْ تبدّى صوت هذا المثقف في مستوى معيّن من مستوياته تعبيره عن ذاته وكأنّه مشغولٌ بالآخر. وثمّة "مثقف المصلحة" المهموم على نحو جشع باستخدام الثقافة جسراً لبلوغ مصالح معيّنة ومخطّط لها مهما كانت الخسائر التي يتعرّض لها المجتمع. ثمّة "مثقف اللعب" الذي يحوّل الثقافة إلى لعبة بلياردو من أجل تسلية فكرية تُرضي نزقه الثقافيّ وتستجيب لنزعته النظرية المغرورة المريضة. ثمّة أنماطٌ أخرى يمكن اكتشافها إذا ما توغلنا عميقاً في تحليل النفسية الثقافية وتفكيك الذهنية الثقافية التي تتحرّك فيها عُقَدُ المثقف في مجتمعاتنا المنهارة. أمّا "المثقف المدجّن" فهو المثقف الذي يكتفي بقول كلمة الحقّ كأنّها باطل، وهو أسوأ أنواع المثقفين وأخطرهم على مستقبل العرب الذين لا مستقبل لهم، بعكس "المثقف المتكامل" المعَد كي يقول كلمة الحقّ ويدافع عنها حتى الرمق الأخير، المثقف الذي يجابه السلطة وهو متيقّنٌ بأنّ السلطة تهابُهُ وتحسب له ألف حساب حين ينجح في تأسيس كلّ مقتربات ثقافته التكاملية بحيث تكون لها قوّةٌ خفيّة وقوّةٌ ظاهرة، قوّةٌ متقدّمة وقوّةٌ ساندة، قوّةٌ أفقية وقوّةٌ عمودية، قوّةُ المقالة الصحافية الراصدة، قوّةُ القصيدة الناقدة، قوّةُ اللوحة المشحونة بطاقة اللون والرؤية والفضاء والإيحاء والأثر، قوّةُ الجمهور المؤمن بدور المثقف والثقافة على نحو يمكن أن تسقط دونه عروشٌ، وتتفكك قصورٌ شوامخ، وتنفرط عرى حكومات وأنظمة وبرلمانات، ويعلو صوت الشعب الذي لا يعلو صوتٌ عليه.

العولمة العولمة في منظورها الثقافيّ

الجديد تخترق الحدود والموانع والجدران، مثلما تخترق أسرّة النوم وفراغات الأصابع والتأملات وملاسة الحروف وسريّة العواطف وبراءة الانفعالات، وتوجّه الأحلام والرؤى والخيالات والتأملات نحو نقطة معيّنة، هي القرين الذي نرفض مسيّرين أن ينفصل عنّا، نساعدها في أن تتدخّل في أدقّ تفاصيل حياتنا من أوّل لحظة يبدأ فيها يومنا وإلى أن نضع رؤوسنا على وساداتنا الجميلة النظيفة، وقد نُقشت عليها عبارة "نوماً هنيئاً" أو "تصبح على خير" أو أيّ عبارة برستيجية أخرى تجعل نومنا موعوداً بأحلام سعيدة من دون حبوب فاليوم. لا بأس بعد ذلك بأيّ بلل محتمل يرطّب عوراتنا، فالماء الساخن وصابون "دوف" الساحر والعطور الراقية كفيلةٌ معالجة الخلل وتصحيح مسارت الأشياء بطريقة رومنطيقية فذّة. الإنسان العربيّ في زمن الحريات والديموقراطيات وحقوق الإنسان يُذبَح ويُهان ويُشوّه، ويتعرّض للتنكيل المتعمّد لأسباب صارت معروفةً اليوم بحكم تقدّم علوم السياسة على يد المتطرفين والغلاة المتبحرين في فنّ القتل، وتسدَّد إلى عقله وضميره وذاكرته وحلمه أعتى أنواع الأسلحة لتفتيت العقل وتسخيف الضمير وتبسيط الذاكرة، ونقل فاعليات هذه الأجهزة الإنسانية المصيرية من فضاء النور إلى مستنقع الظلام. مستقبلُ العرب يتّجه كما هو مخطّط له منذ سنوات طويلة نحو متاهة الغموض والعبث والفوضى واليباس، نحو الالتباس والإبهام ومزيد من الضياع: سوريا أوغاريت، والعراق بلاد الرافدين، تتعرّض فيهما حضارات آلاف السنين للاستباحة والتنكيل والانتقام؛ الفلسطينيون تُرِكوا يواجهون أعنف قوة قمع وبطش وتدمير في عالم اليوم بلا سند ولا معين. بلا فؤاد حرّ ينتخي ولا عين صافية تدمع، والكلّ يتفرّج على الثروات العربية الهائلة كيف تُنهَب على عينك يا تاجر كما يتفرّجون على مباراة كرة قدم ليسوا طرفاً فيها، وفقراء العرب يزدادون عدداً وعُدّةً بوجوه تتكاثر صفرتها الكئيبة وأسنانها المنخورة يوماً بعد يوم، ويرتفع خطّ الفقر العربيّ طعاماً ولباساً وثقافةً ودماً كلّ عام، ويتضاعف عدد الجائعين العرب والنازحين العرب والمرضى العرب والمعوقين العرب والأميين العرب والجرحى العرب والمشرّدين العرب والمجرمين العرب والقتلى العرب في كلّ مكان وزمان وحيّز وزاوية وركن وشارع وزقاق ومتاهة.....

في الشرف العربي

الشرف العربيّ الرفيع الذي لا يسلم من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدم، هو شرفٌ مستباحٌ منذورٌ للعصاة وقطّاع الطرق والأفاقين وتنابلة السلطان والأبالسة وقنّاصي الفرص، واللغةُ العربيةُ، لغةُ القرآن ولغةُ الجنّة ولغةُ السماء والأرض في طريقها إلى الاندثار. فبأيّ شرف بعد الآن سيتغنّى الشعراء العروبيون بمعلقاتهم التي لن تجد لها مكاناً مناسباً على أستار الكعبة؟ وكيف سيدخلُ من تبقّى من البشر حتى يوم القيامة إلى جنان الخلد وهم لا يجيدون اللغة العربية (نحواً وصرفاً وفقهاً وبلاغةً وإنشاءً)؟ أم أنّ مفهومَ الشرف الرفيع قد تغيّر ولم يعد بحاجة إلى مزيد من الدماء كي يسلم من الأذى، وأنّ الجنّة التي عرضها السموات والأرض، امتلأتْ بالصالحين حتى لم يعد ثمة مجالٌ لوافد جديد؟ الوطن العربي من المحيط الهادر إلى الخليج السادر يتمزّق بشرياً وحضارياً وتضيع هويتُهُ الثقافية كما تضيع شمسٌ في كسوف متعمّد لا يعرف أحدٌ متى ينتهي. فماذا يفعل المثقف حتى يعيد إلى وجه الشمس ابتسامته المشرقة ويمحو الكسوف البربريّ المقيت إلى غير رجعة؟ وما هي الأدوات والإجراءات التي ينبغي له استخدامها لكسر شوكة هذا الكسوف الاستعماريّ الظلاميّ الأرعن وتحرير الشمس من براثن غيابها القسريّ "المفتعل"؟ انتهى ....
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ابحث في موضوعات الوكالة

برنامج ضروري لضبط الموقع

صفحة المقالات لابرز الكتاب

شبكة الدانة نيوز الرئيسية

اخر اخبار الدانة الاعلامية

إضافة سلايدر الاخبار بالصور الجانبية

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة

اعشاب تمنحك صحة قوية ورائعة
تعرف على 12 نوع من الاعشاب توفر لك حياة صحية جميلة سعيدة

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية
روابط مواقع قنوات وصحف ومواقع اعلامية

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة

احصائية انتشار كورونا حول العالم لحظة بلحظة
بالتفصيل لكل دول العالم - احصائيات انتشار كورونا لحظة بلحظة

مدينة اللد الفلسطينيةى - تاريخ وحاضر مشرف

الاكثر قراءة

تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

-----تابعونا النشرة الاخبارية على الفيسبوك

الاخبار الرئيسية المتحركة

حكيم الاعلام الجديد

https://www.flickr.com/photos/125909665@N04/ 
حكيم الاعلام الجديد

اعلن معنا



تابعنا على الفيسبوك

------------- - - يسعدنا اعجابكم بصفحتنا يشرفنا متابعتكم لنا

جريدة الارادة


أتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الارشيف

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام

شرفونا بزيارتكم لصفحتنا على الانستغرام
الانستغرام

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة

نيو سيرفيس سنتر متخصصون في الاعلام والعلاقات العامة
مؤسستنا الرائدة في عالم الخدمات الاعلامية والعلاقات العامة ةالتمويل ودراسات الجدوى ةتقييم المشاريع

خدمات نيو سيرفيس

خدمات رائدة تقدمها مؤسسة نيو سيرفيس سنتر ---
مؤسسة نيوسيرفيس سنتر ترحب بكم 

خدماتنا ** خدماتنا ** خدماتنا 

اولا : تمويل المشاريع الكبرى في جميع الدول العربية والعالم 

ثانيا : تسويق وترويج واشهار شركاتكم ومؤسساتكم واعمالكم 

ثالثا : تقديم خدمة العلاقات العامة والاعلام للمؤسسات والافراد

رابعا : تقديم خدمة دراسات الجدوى من خلال التعاون مع مؤسسات صديقة

خامسا : تنظيم الحملات الاعلانية 

سادسا: توفير الخبرات من الموظفين في مختلف المجالات 

نرحب بكم اجمل ترحيب 
الاتصال واتس اب / ماسنجر / فايبر : هاتف 94003878 - 965
 
او الاتصال على البريد الالكتروني 
danaegenvy9090@gmail.com
 
اضغط هنا لمزيد من المعلومات 

اعلن معنا

اعلان سيارات

اعلن معنا

اعلن معنا
معنا تصل لجمهورك
?max-results=7"> سلايدر الصور والاخبار الرئيسي
');
" });

سلايدر الصور الرئيسي

المقالات الشائعة