![]() |
| لوحة الفنان بهرام حاجو |
18 نوفمبر 2017
الحسنة الوحيدة التي تحسب للنظام السوريّ هي أنّه جعلني أعيش المنفى وأنا داخل بلدي سورية، وهذا ما جعل خروجي من سورية، بشكل غير شرعيّ، إلى تركيا، في الأول من أيلول/ سبتمبر 2013، خفيف الوطأة بدرجة أو بأخرى.
هذا كان جوابي على أحد الأسئلة التي طرحوها عليّ ضمن حوار نظّمه معهد "غوته"، خلال فعاليّات معرض فرانكفورت الدولي السابق للكتاب، بعنوان "الفنانون/ الكتاب في المنفى". وتكرّرت هذه النوعيّة من الأسئلة، حول المنفى واللغة الجديدة والغريبة وإمكانيّة الكتابة بها، حتى صرتُ أفكّر بوضع المنفى في حقيبتي واصطحابه معي إلى كلّ أمسية شعريّة لي، في ألمانيا، أو إلى كل حوار!
في الأسابيع الأولى من وصولنا إلى تركيّا، انشغلتُ عن الكتابة بفرح طفليّ بالكهرباء والماء ومشاهدة البرامج الخاصة بهم. ظننتُ، في تلك الأسابيع، أنّ المنفى علاج لنا أو لأحدنا على الأقل، خاصة أن طفلي الأكبر ما عادت دموعه تفيض وهو نائم، وبالتالي قد ينسى ذلك المشهد الذي شاهدناه قرب مدرسته، ونحن متشابكو الأيدي، والسيارة المفخّخة تُقطّع أمامنا ستة أشخاص إلى قطع مرتجلة.
في تركيّا كان هناك كثيرون من الذين يتحدّثون العربيّة أو الكرديّة؛ لذلك كان وزن المنفى خفيفًا علينا نوعًا ما؛ فهناك كان قد تمّ افتتاح كثير من المدارس السوريّة، وبكوادر من المعلمين والتربويّين السوريين، وكانت تُعلّم اللغة التركيّة كلغة ثانية، وكلّ طلاب تلك المدارس في "مرسين" كانوا سوريين نجوا من الموت بأعجوبة. وفي الوقت الذي كنتُ أحفظ الأشياء في ذاكرتي، مثل تخطيطات الرسامين، من أجل كتابتها عند العودة إلى البلد، غادرتُ فجأة إلى أوروبا لوحدي. وهناك استقبلني المنفى بذراعين واسعتين. وظلّ دليلي الصامت والوحيد في كلّ مكان، حتى إنّه صار يُشغّل المنامات التي عليّ رؤيتها هنا وأنا أتقلّبُ في سرير تقلّبَ عليه شعب كامل من منبوذي هذه الأرض.
صار المنفى هو البعد عن العائلة الصغيرة التي قد تتعرّض للشقاء وحيدة هناك في بلد غريب. ولكن التكنولوجيا الحديثة للاتصالات هدمت ذلك الجدار العالي والسميك، والذي كان يفصل بيننا؛ فكانت تنقل صورنا وكلامنا وقصصنا ووعودنا باللقاء القريب، ولكنّها ما زالت عاجزة على نقل الروائح لنشمّها، والأجساد لنلمسها أو لنقيس درجة حرارتها، أو حتى جعل الأيدي تضع الغطاء على جسد رفس الأغطية خلال تكرار مشاهدة تلك الأحلام البغيضة القادمة أبدًا من مسقط الرأس. كنتُ أحرّك "الماوس" على وجه طفلي، على حواجبه وعيونه وفمه الرقيق. وكنت أخاف أن أجرحه لأن الماوس كان يرتجف من رجفان قلبي بسبب شدة الحرمان.
بالنسبة لكتابة الشعر لم يتغيّر عليّ شيء. هناك صور جديدة حولي نعم، وعمران وطبيعة وحجارة سميكة بسبب الحياة، وتربة هشّة صنعها تخثّر كثير من الدماء التي سالت خلال الحروب القديمة.. ولكنّني لا أفهم معاناة الناس الذين يسكنون هذه البلاد. هل يُعاني هؤلاء الذين تمنع دولهم عنهم العوز والجوع والحرمان ومسّ كراماتهم؟ لا أعرف قصصهم. ولم أنجح في مراقبة حياتهم الخفيفة على أيّة حال. ليس هناك كلمات جديدة أحصل عليها حتى الآن، بقدر ما صارت كلماتي القديمة تعيش حياتها هنا أيضًا، ولكن بطريقة غريبة؛ أشعر بها تتفتّتُ هي أيضًا تحت ضربات المنفى والجمال والرخاء. لم تعش كلماتي في مكانٍ يشعر فيه الناس بكلّ هذا الرخاء، وبدواخلهم التي تشبه دواخل الآلات التي تعمل وتعمل بلا شكوى.
ذهبتُ إلى المقابر هنا في ألمانيا. قلتُ لنفسي: ربّما الأمواتُ يُعانون، وتستطيعُ كلماتي أن تحيا من جديد. وقرأتُ على الشواهد أعمارهم الطويلة؛ قليل منهم ماتوا قبل الثمانين. لا أحد مات في العشرين من عمره، ولا حتى في الأربعين. واكتشفتُ أنّ أمراضًا مثل السكري والضغط وتعفّن الرئتين والذبحة الصدريّة والفشل الكلوي عاطلة عن العمل هنا. وقلتُ في نفسي: لا بدّ أنّ الموجة العالية من اللاجئين ستجعلُ هذه المنظومة تغرق. وبالفعل صار مَن هم منّا في الثلاثينيات والأربعينيات يذهبون للسكن في تلك المقابر الهانئة.
لم أنقطع عن كتابة الشعر سواء في تركيا أو ألمانيا، على الرغم من أنّ استدراج ما تخلينا عنه سابقًا إلى أماكننا الجديدة صار أمرًا عسيرًا ومريرًا. قمتُ بإنعاش كلماتي بالعودة إلى قراءة الروايات التي أعثر فيها على الشعر أكثر من عثوري عليه في كتب الشعر نفسها. وفوق ذلك أجهّز كتابًا جديدًا في الشعر، وهو أمر قاسٍ هنا. ربّما المنفى هو أن تشعر مفرداتك ولغتك بالحرمان أكثر منك.
كتبتُ عن الحروب والسجون والموت والتعذيب والأرامل والجائعين والمنفيين مجموعات شعريّة سابقة عدة. كان مزاجي مرتاحًا في تلك الأماكن القاسية والرطبة بسبب الدم والآهات والأنين. كتبتُ عن ذلك قبل أن تقع حربنا الشخصيّة إذا جاز التعبير. الآن أكتب ولكن ما زال مزاجي الجديد غامضًا عليّ. ربّما "أسحلُ" مزاجًا جديدًا مع استدراج تلك الحياة القديمة لخوضها هنا. وربّما، مع تعلّم لغة المكان، يصبح من السهل عليّ التغاضي عن العاطفة الشخصيّة وإبعادها، قدر الإمكان، عن النصّ، طالما أنّ الناس هنا يفتقدون هذه العاطفة التي تفقدها الآلات المُزيّتة بشكل جيّد.
لقد حكمنا أناس لعشرات السنوات عملوا جاهدين على ألا يجعلوا من مواطني هذا البلد أهلًا بعضهم لبعض فكيف يُمكن أن تنفجر بيننا حرب أهليّة؟. قلتُ ذلك للألمان الذين يظنّ بعضهم أنّ المأساة السوريّة هي التي تحدث في أجهزة الإعلام وحسب، وليست على أرض الواقع!
سابقًا لم نكن نعرف ماذا نقول لأولادنا عن بلدنا، ولا نعرف ماذا نقول الآن، وهم يُشاهدون كلّ هذا الموت والفزع والخراب والضياع. ومثلما كتبنا عن الحرب قبل أن تحدث فحدثت، ربّما يأتي الوقت قريبًا كي نكتب عن سورية ونجدها أخيرًا. ربّما المنفى أيضًا ألا نعرف ماذا نحكي لأطفالنا. ألا نعرف الطريقة التي تجعل ذلك البلد الحزين بلدهم أيضًا.
درجة البرودة هي أربع درجات تحت الصفر الآن، بينما تشعر أنها ناقص عشرين درجة. هكذا يُمكن تفسير المنفى أيضًا.





ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق